كانت النيجر من الديمقراطيات القليلة المتبقية في منطقة الساحل بعد عديد من الانقلابات العسكرية منذ عام 2021 في بوركينافاسو ومالي وتشاد؛ ولذلك أثار انتقالها من دولة مستقرة ذات حكومة ديمقراطية منتخبة بقيادة الرئيس محمد بازوم إلى دولة غير مستقرة في 26 يوليو الفائت (2023) بعد وضع بازوم قيد الإقامة الجبرية، وتشكيل مجلس عسكري بقيادة الجنرال عبد الرحمن تشياني، قلق الولايات المتحدة؛ لكون النيجر حليفاً رئيسياً لها في محاربة التنظيمات الإرهابية في منطقة غرب أفريقيا. ويعتبر المسئولون العسكريون الأمريكيون القوات الخاصة النيجرية من بين القوات الأفضل في المنطقة. وتتزايد أهمية الدولة بعد طرد القادة العسكريين في مالي وبوركينافاسو القوات الغربية، في ظل استمرار الجهود الأمريكية لردع المتطرفين العنيفين في القارة الأفريقية.
فقد وصف تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية، صدر في 21 أبريل 2022، النيجر بأنها أساس للاستقرار في منطقة الساحل، وشريك للولايات المتحدة أكثر انفتاحاً ونشاطاً، وأن الدولتين تتعاونان ليس فقط في محاربة المتمردين، ولكن أيضاً في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في منطقة غير مستقرة إلى حد كبير، ومعالجة المشاكل التي تغذي عدم الاستقرار والاضطرابات، وكذلك التهديد المتزايد لظاهرة تغير المناخ.
التحركات الأمريكية
لم يختلف موقف إدارة الرئيس جو بايدن من تطورات الانقلاب العسكري في النيجر كثيراً عن التعامل الأمريكي مع تعثر عملية الانتقال الديمقراطي في السودان، والتي تشهد مرحلة من التدهور في ظل استمرار الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، منذ 15 أبريل الفائت وحتى الآن. وتتمثل أبرز ملامح التحرك الأمريكي الراهن للتعامل مع تطورت الانقلاب العسكري في النيجر فيما يلي:
1- التأكيد على الدور الدبلوماسي: انطلق الموقف الأمريكي في التعامل مع الانقلاب العسكري على الرئيس بازوم من إيلاء أولوية خاصة للجهود الدبلوماسية لاستعادة النظام الديمقراطي والإفراج عن الرئيس المحتجز، فقد دعا الرئيس جو بايدن في 3 أغسطس الجاري للإفراج الفوري عن الرئيس بازوم، المحتجز مع عائلته من قبل قادة الانقلاب، مشدداً على أهمية الدفاع عن القيم الديمقراطية.
ولا تزال الولايات المتحدة ترى أن هناك فرصة للدبلوماسية لإعادة الأمور لنصابها في النيجر مع استمرار ضغوط دول غرب إفريقيا على الانقلابيين. فقد ذكر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في 15 أغسطس الجاري للصحفيين: “لا نزال نركز بشدة على الدبلوماسية؛ لتحقيق النتائج التي نريد، أي عودة النظام الدستوري، مضيفاً: “أعتقد أنه لا يزال هناك مساحة للدبلوماسية لتحقيق هذه النتيجة”. ولذلك أعربت الولايات المتحدة في 14 أغسطس الجاري عن استيائها من إعلان المجلس العسكري في النيجر عزمه محاكمة الرئيس محمد بازوم بتهمة “الخيانة العظمي”؛ لكونها خطوة قد تزيد من التوتر المتصاعد منذ انقلاب 26 يوليو الفائت.
وفي إطار الجهود الدبلوماسية الأمريكية لعودة النظام الديمقراطي في النيجر، قامت فيكتوريا نولاند القائمة بأعمال نائب وزير الخارجية الأمريكي، في 7 أغسطس الجاري، بزيارة لنيامي وأجرت محادثات مع كبار مسئولي المجلس العسكري، والمجتمع المدني النيجيري، للتشديد على الالتزام الأمريكي بدعم الديمقراطية والنظام الدستوري. ولكن الزيارة لم تحقق نجاحاً، حيث لم يهتم مسئولو المجلس العسكري الذين اجتمعت معهم نولاند بمقترحات الولايات المتحدة بشأن السعي لاستعادة النظام الديمقراطي، وقد قوبل طلبها للقاء رئيس النيجر المطاح به محمد بازوم بالرفض من جانب المجلس العسكري، الذي لم تلتق قائده.
2- إجلاء الأمريكيين من النيجر: رغم المخاوف الأمريكية من تدهور الأوضاع الأمنية في النيجر، فإن الولايات المتحدة لم تسع لعملية إجلاء كاملة للمواطنين الأمريكيين من النيجر على عكس ما حدث مؤخراً في السودان، ولكن أمرت وزارة الخارجية الأمريكية في 2 أغسطس الجاري، بإجلاء الموظفين غير الطارئين وأفراد أسرهم من النيجر. وقد خفّضت السفارة في نيامي موظفيها مؤقتاً، وعلّقت الخدمات الروتينية، واقتصر دورها على تقديم المساعدة الطارئة للمواطنين الأمريكيين في النيجر. وأعلنت السفارة الأمريكية عن تقديم المساعدات لأي أمريكي موجود في البلاد ويرغب في مغادرتها. ولكن عملية الإجلاء لن تتضمن مغادرة ما يقرب من 1100 جندي أمريكي في النيجر. وتعكس عملية إجلاء الولايات المتحدة لدبلوماسييها من النيجر عدم اليقين الأمريكي بشأن تطورات الأوضاع في الدولة، والتي يشدد المسئولون الأمريكيون على أنها لا تزال ضبابية.
3- عدم توصيف ما حدث على إنه “انقلاب”: ترفض إدارة الرئيس جو بايدن وصف إطاحة الجيش برئيس النيجر بأنها “انقلاب”؛ لأن من شأن هذا التوصيف إنهاء المساعدات الأمنية الأمريكية والتدريب، وربما المساعدات العسكرية وفقاً للقانون الأمريكي، وهو الأمر من شأنه التأثير على جهود الولايات المتحدة لمحاربة التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء، والحد من النفوذ الروسي في أفريقيا. وفي هذا الإطار يقول مسئولون عسكريون أنه ليس لدى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أي خطط لنقل العسكريين أو المعدات العسكرية الأمريكية من النيجر.
4- عدم دعم عمل عسكري في النيجر: بينما يبحث رؤساء أركان جيوش الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” في غانا، يومي 17 و18 أغسطس الجاري، فرص القيام بعمل عسكري محتمل في النيجر، لم تقل الإدارة الأمريكية ما إذا كانت ستوفر الخدمات اللوجستية أو أي دعم للتدخل العسكري لـ”إيكواس” من عدمه. وقد أعرب المسئولون الأمريكيون عن شكوكهم في التدخل العسكري لـ”إيكواس”، ويرجع ذلك – جزئياً – إلى المخاوف بشأن الوفيات بين المدنيين، ووضع الرئيس بازوم. ولكن الولايات المتحدة ترى أن التدخل العسكري ضد الانقلابيين في النيجر ينبغي أن يكون “الملاذ الأخير”.
المصالح أولاً
تكشف مواقف إدارة الرئيس الأمريكي من تعثر الديمقراطية في دول القارة الإفريقية، والتي كان آخرها الانقلاب على الرئيس النيجري محمد بازوم المنتخب ديمقراطياً في أبريل 2021، أنها تُعلي من مصالحها وأمنها القومي على قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي وضعتها أولوية على أجندتها منذ اليوم الأول لها في البيت الأبيض، بشكل انعكس في عقد قمتين للديمقراطية، في ديسمبر 2021، ومارس 2023.
وقد أعطت الإدارة الأمريكية أولوية أولى للمصالح الأمريكية والتخلي عن القيم والمبادئ في تعاملها مع التطورات الراهنة في النيجر، لأهميتها في مكافحة الإرهاب في أفريقيا، ولا سيما بعد افتتاح وزارة الدفاع الأمريكية في عام 2019 قاعدة جديدة للطائرات بدون طيار MQ-9 Reaper في مدينة أجادير، بقيمة ١١٠ مليون دولار، والتي يستخدمها الجيش الأمريكي لاستهداف التنظيمات الإرهابية في جميع أنحاء غرب وشمال أفريقيا. ومنذ عام 2012، أنفقت الولايات المتحدة 500 مليون دولار لتدريب وتسليح القوات المسلحة النيجرية، ويتمركز حوالي 1100 جندي أمريكي في البلاد، يقدم غالبيتهم المشورة والتدريب للقوات الخاصة النيجرية.
ورغم تصاعد تيار داخل الولايات المتحدة يدعو الإدارة الأمريكية لوقف المساعدات العسكرية للنيجر، للضغط على الانقلابيين وعودة النظام الديمقراطي، فإنه لا يتوقع أن تقدم الإدارة الأمريكية على اتخاذ هذا القرار، حيث هناك قناعة بأن قطع المساعدات العسكرية عن النيجر قد يدفع العسكريين النيجريين إلى اللجوء إلى خصوم الولايات المتحدة الاستراتيجيين، وخاصة روسيا والصين، أو مجموعة فاجنر، المدعومة من الكرملين، للحصول على المساعدة، ولا سيما بعد تزايد دورها في القارة، وفي المناطق التي تنسحب منها الولايات المتحدة والقوى الغربية. فعلى سبيل المثال زاد تواجد ونفوذ فاجنر بعد انسحاب الغرب من مالي بسبب انقلاب عام 2021.
وهناك قلق أمريكي من أن إنهاء المساعدات الأمريكية للنيجر يمكن أن يقلل أيضاً من النفوذ الأمريكي لإقناع العسكريين النيجريين باستعادة الديمقراطية، وإعادة الرئيس محمد بازوم للسلطة مجدداً، وهو ما يتعارض مع المقاربة الأمريكية لفرض عقوبات على الأنظمة السلطوية والانقلابية لإضعافها مالياً. ناهيك عن المخاوف الأمريكية من أن يؤدي قطع الولايات المتحدة علاقاتها بالعسكريين في النيجر، إلى مطالبتهم بخروج القوات الأمريكية من الدولة، والقاعدة العسكرية في أجادير، وتسليمها لروسيا، على نحو سيمكنها من تعزيز نفوذها العسكري في القارة.
خلاصة القول، يعتمد موقف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من الانقلاب العسكري في النيجر على إبقاء خياراتها مفتوحة، حيث لا يزال هناك أمل أمريكي في نقل السلطة من الجيش سلمياً إلى حكومة ديمقراطية جديدة. وبغض النظر عن تطورات الأوضاع السياسية في النيجر، فإن الولايات المتحدة قد تجد طريقة للعمل مع القوات المسلحة النيجرية بسبب الالتزامات والمصالح الأمريكية الهامة في منطقة الساحل والصحراء.
ويكشف الموقف الأمريكي من الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينافاسو والدور الأمريكي في إنهاء القتال المستمر في السودان، عن حدود للدور الأمريكي في استعادة الديمقراطية في النيجر ومساعدة دول الساحل في الدفاع عن نفسها ضد حركات التمرد ومنع روسيا من الاستفادة من عدم الاستقرار في دول شريكة للولايات المتحدة في مجابهة التنظيمات الإرهابية في أفريقيا.
د.عمرو عبد العاطي / باحث في الشئون الأمريكية، ومساعد رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية
المصدر: موقع مركز الأهرام الدراسات السياسية والإستراتيجية