spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

جاك دريدا.. الفيلسوف العربي في ذكراه العشرين

قبل عشرين سنة، وتحديداً في 9 أكتوبر 2004، رحل الفيلسوف الفرنسي الشهير جاك دريدا الذي ولد في الجزائر إبان عهد الاحتلال الفرنسي وعاش فيها حتى سن التاسعة عشرة، وكان يقول عن نفسه إنه فيلسوف عربي أفريقي قبل أن يكون أوروبياً أو غربياً. في فلسفته التفكيكية، نَقد دريدا بقوة مفهومَ الهوية واعتبر أنه مجرد غطاء مصطلحي وهمي لتمويه الاختلاف ومحو التعددية التي هي سمة الأشياء الوحيدة.

لكنه مع ذلك أطلق على نفسه «اليهودي الأخير»، واعتبر أنَّ المفارقة الكبرى في حياته هي كونه عاش عروبتَه في ثوب يهوديته، واكتشف غربتَه وضياعه في تجربة الاحتضان الفرنسية. لقد كان دريدا شديدَ التعاطف مع القضايا العربية العادلة، مِن ثورة التحرير الجزائرية إلى القضية الفلسطينية. وقد ظلت مقولات التيه والمحو والغربة والضيافة.. حاضرةً بكثافة في أعمال دريدا الغزيرة، مما حدا بالبعض للحديث عن الجذور اليهودية الثابتة في فكره الفلسفي، رغم نفيه المتكرر لهذه الجذور المتوهمة. بيد أن الوجه العربي لدريدا لم يُمَط عنه بعدُ اللثام.

ولعل كتاب الفيلسوف الجزائري والوزير الأسبق مصطفى شريف «الإسلام والغرب» الذي حاور فيه مطولاً دريدا، هو النص الوحيد الذي بحوزتنا في سبْر الحضور العربي ضمْن فلسفة دريدا. في هذا الكتاب يعترف دريدا أن أفكاره الفلسفية تبلورت على خطوط التماس بين طفولته العربية الحاسمة ومساره الفكري اللاحق في فرنسا، لكنه يؤكد أنه لم يتخلص يوماً من أطياف ثقافته العربية ولم يندمج كلياً في السردية الفلسفية الغربية.

فكرة الأشباح أو الأطياف محورية عند دريدا الذي كتب أحد أجمل كتبه بعنوان «أطياف ماركس»، بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك المعسكر الشيوعي، مبيناً فيه أن انحسار الأيديولوجيا الماركسية خلّف حضوراً جديداً لماركس من حيث هو شبح يهدد الماكينة الرأسمالية العالمية في نشوتها الكبرى بالانتصار على الشيوعية المهزومة نظرياً وسياسياً.

وبالمعنى نفسه، يرى دريدا أن العروبة شبح لا يفارق الحضارةَ الغربية التي قامت تاريخياً على وهم القطيعة مع التراث العربي الوسيط، ومع التقليد اليهودي أيضاً الذي يرى أن إعادة الاعتبار المتأخرة له لا تعني استيعابه الحقيقي في النسيج الفكري الغربي، كما يظهر من قراءته النقدية لمقاربة هيغل حول اليهودية وتنبيهه لغياب النص العبري بكامله في كتابات هايدغر. والواقع أن مقولة الغرب فلسفياً قامت على حركة مزدوجة، هي اعتبار الفكر اليوناني الأصل البعيد للحضارة الغربية، وإقصاء التراث العربي الإسلامي من التاريخ الثقافي الغربي.

وبغض النظر عن التداخل الكثيف عقدياً وفكرياً بين الشرق الأدنى والأوسط (حسب الدلالات الرائجة) والفلسفة اليونانية التي برزت أساساً في الجناح الشرقي للعالم اليوناني، فإنه لا بد من الاعتراف بأن الفلسفة العربية الإسلامية شكّلت منذ بدايتها رافداً أساسياً من روافد الفكر الغربي الحديث. قد لا يكون دريدا على اطلاع حقيقي على الفلسفة العربية التي لا نجد لها ذكراً ملموساً في أعماله، لكن مما لا شك فيه أن جهودَه في نقد المركزية الغربية من خلال مفاهيم «الامتياز النطقي» و«التأويلية الخطية» وإعادته الاعتبارَ للكتابة واللوح المسطور.. فتحت آفاقاً رحبةً للفلسفة العربية المعاصرة لم تقتنصها. لقد ظل حضور دريدا في الساحة الثقافية العربية محصوراً في كتابات النقاد والأدباء الذين نظروا إلى التفكيكية كمنهج في قراءة النصوص، على غرار الأسلوبية البنيوية، وذلك ما ينفيه دريدا كلياً. كان من الحري بالمشتغلين بالفكر الفلسفي من العرب أن يستفيدوا من الآفاق الفسيحة التي دشنتها تفكيكية دريدا، الذي كان يقدم دوماً نفسَه بصفته صوتَ الهامش الهمجي المقصي، على حافة القارة التي تدّعي احتكارَ الحقيقة والمعنى.

وفي أعماله الأخيرة خصص دريدا اهتمامه بالموضوعات المحورية في التراث العربي، مثل الكرم والحلم والعفو والمجاز.. وباستثناء صديقه المقرّب عالم الاجتماع والأديب المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، لم تنل هذه المباحث العنايةَ المستحقة من الفلاسفة والمفكرين العرب.

ما يبقى مِن دريدا هو هذا الولع غير المتناهي بالكتابة والنص الذي هو في نهاية المطاف مسلك عربي عميق، ومن هنا أهمية المسألة التراثية في الفكر العربي المعاصر. ولقد كتب دريدا في «أطياف ماركس»: «إن التراث ليس بضاعة نمتلكها، أو ثروةً نتلقاها فندخرها في المصارف، إنه التزام حي وانتقائي، قد يكون إحياؤه وتأكيده أجدى لدى الورثة غير الشرعيين ممن يتوهمون أنهم حراس التراث وملاكه».

spot_img