وصلت نسبة النجاح في الباكالوريا في الدورة العادية لهذا العام إلى 15.89%، وهذه نسبة لا بأس بها إذا ما قورنت بنسبة النجاح في العام 2022، والتي كانت في حدود 12.6 %، أو نسبة النجاح في العام 2021، والتي لم تتجاوز 8%. نعم هذه النسبة لا بأس بها إذا ما قورنت بنسب النجاح في بعض السنوات الماضية، ولكنها تبقى نسبة متدنية جدا إذا ما قورنت بنسب النجاح في الدول المجاورة.
هذه النسبة التي تحدثنا عنها هنا هي النسبة العامة لمستوى النجاح في الباكالوريا. أما إذا دخلنا في التفاصيل فسنجد أنها تخفي تمايزا كبيرا بين الشعب، وتبقى نسبة النجاح في شعبة الآداب العصرية هي النسبة الأضعف، حيث أنها لم تتجاوز 1.4 % في العام 2019 و 2% في العام 2020، ووصلت هذا العام إلى 5.2%.
لنطرح السؤال : لماذا نسبة النجاح في الباكالوريا شعبة الآداب العصرية متدنية جدا، وإلى هذا الحد؟
إن الإجابة التي يدفع بها الأساتذة وكل من له صلة بالموضوع تقول بأن السبب الأبرز هو تساوي الضارب بين المواد الأساسية الثلاث: العربية، الفلسفة، الفرنسية، على عكس ما هو حاصل في الشعب الأخرى، والتي تتمايز فيها المواد الأساسية على مستوى الضوارب.
إن تساوي ضوارب المواد الأساسية في شعبة الآداب العصرية، جعل أي نتيجة متدنية جدا في اللغة الفرنسية تؤدي إلى رسوب صاحبها، والمشكلة أن نتائج أغلب المترشحين في اللغة الفرنسية هي نتائج متدنية جدا جدا.
لنأخذ هذا المثال من ثانوية “كيهيدي 2″، ولأن البعض قد يسأل لماذا ثانوية “كيهيدي 2” بالذات، فالجواب هو أن اختيار ثانوية من إحدى مدن الضفة جاء لكشف مغالطة كبيرة، كثيرا ما حاول البعض أن يسوقها، وهي أن تلاميذ مدن الضفة يجيدون اللغة الفرنسية، وأن مشكلتهم دائما في اللغة العربية.
هذه مغالطة غير صحيحة، وسنفندها هنا بالأرقام، ولذلك فإننا نرجو من مروجي تلك المغالطة أن يشدوا الأحزمة فالأرقام ستكون صادمة.
في ثانوية “كيهيدي2” شارك 37 تلميذا في امتحان الباكالوريا شعبة الآداب العصرية، ولم يحصل على 6/20 في مادة اللغة الفرنسية إلا تلميذ واحد. كل النتائج الأخرى في مادة اللغة الفرنسية كانت تحت النقطة 6. أما بالنسبة لمادة اللغة العربية فقد كانت النتائج جيدة، وكانت كلها فوق المعدل باستثناء نتائج ثلاثة تلاميذ، كانت على النحو التالي : 09.12 ؛ 07.25؛ 08.62. نفس الشيء يمكن أن نقوله عن مادة الفلسفة، فقد حصل فيها كل التلاميذ على نتائج فوق المعدل باستثناء ستة تلاميذ كانت نتائجهم كالآتي: 09.75؛ 09.62 ؛ 06.25؛ 09؛ 08؛ 08.
يمكنكم أن تلاحظوا الآتي: إن صاحب أضعف نتيجة في مادة اللغة العربية في هذه الثانوية تفوق على صاحب أعلى نتيجة في مادة اللغة الفرنسية وبفارق 1.25 نقطة.
وإذا ما حسبنا متوسط المعدل في المواد الأساسية الثلاث على مستوى الثانوية كلها، فسنجد الآتي:
المعدل العام للمترشحين من ثانوية “كيهيدي 2” في مادة اللغة العربية = 11.81 (وهو حاصل قسمة مجموع النتائج على عدد التلاميذ)
المعدل العام لنفس التلاميذ في مادة الفلسفة = 11.28
المعدل العام لنفس التلاميذ في مادة اللغة الفرنسية = 03.83
ولأن هذه المواد الثلاثة تتساوى في الضارب، فيمكنكم أن تدركوا حجم الرسوب الذي تسببت فيه اللغة الفرنسية بالنسبة لتلاميذ ثانوية “كيهيدي 2″، وبالنسبة لغيرها من ثانويات البلاد.
بعد استعراض هذا المثال من إحدى ثانويات مدن الضفة، فإنه قد يكون من المهم التنبيه إلى الأمور التالية:
1 ـ من المغالطات الرائجة القول بأن الحد من تدريس أو استخدام اللغة الفرنسية في التعليم أو الإدارة ستتضرر منه بعض المكونات الوطنية دون الأخرى، ولتفنيد هذه المغالطة جئنا بمثال من ثانوية “كيهيدي 2” أظهر ـ وبشكل واضح أن الضرر جاء من اللغة الفرنسية لا اللغة العربية. إن الولاية التي أنجبت رائد التعريب في موريتانيا “الحاج محمود با” رحمه الله لا يمكن أن تتضرر إذا ما أعطيت للغة العربية مكانتها التي تستحق.
شيء آخر: إن رئيس الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية وبعض الأعضاء المؤسسين في هذه الحملة هم من المنحدرين من هذه الولاية، وهم إن لم يكونوا أكثر تمسكا ودفاعا عن اللغة العربية من أعضاء الحملة من المكونات الأخرى، فإنهم ليسوا أقل منهم تمسكا ولا أقل دفاعا عن اللغة العربية.
كل ما في الأمر هو أن هناك نخبا فرانكفونية مسيطرة تعمل على تهميش وتغييب النخب المعربة من كل المكونات، تغييبها إداريا وإعلاميا وسياسيا؛
2 ـ هناك مغالطة أخرى يدفع بها البعض وهي أن اللغة الفرنسية تعتبر لغة تواصل بين بعض المكونات الوطنية وامتداداتها في إفريقيا. السؤال هنا هو لماذا لا تجعل تلك المكونات من لغاتها الأم لغة اتصال مع امتداداتها في إفريقيا بدلا من اللغة الفرنسية؟
إحصائيا، فإن اللغة العربية هي اللغة الثانية إن لم تكن الأولى من حيث الاستخدام في إفريقيا، والفرنسية تأتي في المرتبة الرابعة في أفريقيا بعد العربية والانجليزية والسواحلية. ثم إن استخدام اللغة العربية يتزايد في إفريقيا، بينما يتراجع استخدام اللغة الفرنسية. ففي دول الجوار مثلا سنجد أن استخدام اللغة العربية في السنغال يتزايد، أما في مالي فإن دستورها الجديد ألغى رسمية اللغة الفرنسية، وجعلها لغة عمل فقط في خطوة للتخلص منها تدريجيا، أما اللغة العربية فقد أصبحت مع لغات وطنية أخرى لغة رسمية في مالي، والإقبال على تعلمها من طرف الماليين يزداد بوتيرة سريعة جدا.
3 ـ إننا نسرق مستقبل أبنائنا من خلال تضييع أوقاتهم وجهودهم في تعلم لغة تتراجع مكانتها عالميا بوتيرة لافتة، لن يغفر لنا أبناؤنا ذلك عندما يكبرون.
لم تعد فرنسا بتلك القوة التي كانت عليها في القرن الماضي، ولم تعد قادرة على فرض لغتها وثقافتها على مستعمراتها القديمة، ولم يعد بإمكانها أن توقف هذا السخط المتنامي لدى الأجيال الشابة في إفريقيا السوداء على كل ماله صلة بفرنسا. إن هذا السخط المتنامي ضد فرنسا وكل ماله صلة بها هو الذي دفع بعض الدول الإفريقية إلى الارتماء في أحضان الروس نكاية بفرنسا.
4 ـ قد لا يكون من المناسب أن نُطالب في هذه البلاد بإلغاء اللغة الفرنسية بشكل كلي، ولكن في المقابل، فإنه ليس من المقبول أن تبقى هذه اللغة الأجنبية التي تتراجع مكانتها عالميا تحتل مساحة ليست من حقها في الإدارة والتعليم، وأن يكون ذلك على حساب تفعيل ترسيم لغتنا الرسمية، وترقية لغاتنا الوطنية.
نعم لتدريس اللغة الفرنسية بصفتها اللغة الأجنبية الأولى في موريتانيا، حتى وإن كانت المصلحة العليا للبلد تقتضي جعلها اللغة الأجنبية الثانية بعد اللغة الإنجليزية، والتي تعتبر لغة العلم والعالم في هذه الفاصلة من تاريخ البشرية.
بكلمة واحدة
نعم لتدريس اللغة الفرنسية بصفتها اللغة الأجنبية الأولى في موريتانيا، ولكن لا لاستمرار احتلال هذه اللغة الأجنبية لمكانة لا تستحقها في التعليم والإدارة، فاحتلالها لمكانة لا تستحقها سيكون بالطبع على حساب لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية.
محمد الأمين ولد الفاضل / كاتب وناشط جمعوي