spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

بعد أزمة النيجر.. هل تنتهي إمبراطورية فرنسا في إفريقيا؟

كان ما يمكن وَصْفه بـأنه “مشهد ما بعد الاستعمار” الفرنسي للنيجر دالًّا؛ فقد اصطفَّ مئات المواطنين الفرنسيين إلى جانب مواطني الاتحاد الأوروبي الآخرين في النيجر أمام السفارة الفرنسية في نيامي؛ من أجل إجلائهم على عَجَل في أعقاب الانقاب العسكري الذي وقع في البلاد، كما هرع المدنيون المذعورون يشقُّون طريقهم إلى المطارات المتهالكة؛ على أمل الحصول على رحلة طارئة؛ للخروج من حالة الفوضى التي ضربت البلاد، بعد تصاعُد أزمات فرنسا في غرب القارة السمراء.

فقد وقع انقلاب على رئيس النيجر المنتخب ديموقراطيًّا محمد بازوم قبل أيام من العيد الوطني للبلاد؛ حيث يصادف مرور 63 عامًا على نيل النيجر استقلالها الاسمي عن فرنسا عام 1960م، وقد كانت الحشود التي تجمهرت عقب الانقلاب تهتف “تسقط فرنسا”؛ تلك الحشود التي سارت باتجاه السفارة الفرنسية؛ حيث حطَّموا نوافذها، وأشعلوا النار في الجدران المحيطة بها.

ومع بقاء بازوم قيد الإقامة الجبرية؛ فإن حلفاءه المقربين في باريس يخشون من عدم ضمان سلامة المدنيين الأجانب، وصرَّح قصر الإليزيه بحَسْم بأن باريس “لن تتسامح مع أيّ هجوم ضد فرنسا ومصالحها” في البلاد.

وعقب ذلك صرح ماكرون بقوله: “إنه إذا أُصيب أيّ شخص، فإن الانتقام سيأتي على الفور وبدون هوادة”؛ حيث أصدر تحذيرًا صارخًا للسكان الأصليين المشاغبين، من على بُعْد أكثر من ألفي ميل.

على الرغم من وَهْم الانسحاب الكامل، لا يزال لدى فرنسا حامية قوامها 1500 جندي في النيجر، إلى جانب قاعدة جوية تخدم الطائرات المقاتلة الهجومية والطائرات بدون طيار. كل هذا تذكير قويّ بأنه على الرغم من فترة طويلة ودموية من الصراع بهدف إنهاء الاستعمار؛ إلا أن فرنسا قد احتفظت بشبه إمبراطورية في إفريقيا عن طريق التخفي، وهي مُهدَّدة بشكلٍ لم يسبق له مثيل.

وبالتالي يمكن ربط أزمة النيجر الحالية بالعلاقات الاستعمارية السابقة التي تتم إعادة هيكلتها تحت اسم Françafrique؛ وهي رابطة استعمارية جديدة هائلة عبر إفريقيا جنوب الصحراء، تضم روابط وتحالفات اقتصادية وسياسية وأمنية وثقافية تتمحور حول اللغة والقيم الفرنسية.

وقد لخَّص شارل ديغول -أكثر رؤساء فرنسا نفوذًا في فترة ما بعد الحرب- أهمية تلك الرابطة بالقول: “إن القوة الفرنسية العالمية والقوة الفرنسية في إفريقيا مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا، ويؤكد كل منهما الآخر”. وأثناء الاعتراف بحركات تقرير المصير، أراد ديغول والقادة الفرنسيون اللاحقون التمسك بقواعدهم العسكرية الاستراتيجية، فضلاً عن موارد الطاقة والصفقات التجارية المهمة، إلى جانب السيطرة المالية على مستعمراتها السابقة.

لقد نظر هؤلاء القادة جميعًا إلى إفريقيا على أنها فناء خلفي لفرنسا، أو أنها أحد المصادر والموارد المهمة لفرنسا، والتي يعود تاريخها إلى ملوك ما قبل الثورة؛ للإشارة إلى الأراضي المحتلة التي كانت بحاجة إلى الدفاع عنها في ذلك الوقت. فالنيجر -على سبيل المثال- هي سابع أكبر مُنْتِج لليورانيوم في العالم، وفرنسا -التي تعتمد على الطاقة النووية لحوالي 70٪ من طاقتها- هي مستورد رئيس لتلك المادة الاستراتيجية، إلى جانب معادن نفيسة أخرى.

وعلى الجانب الآخر، وعلى مر السنوات، تغلغل المستشارون العسكريون والحكوميون من باريس أيضًا في نسيج الإدارات النيجرية المتعاقبة، وليس أقلها تلك الإدارة الأخيرة التي تمت الإطاحة بها برئاسة محمد بازوم.

وبشكلٍ حاسمٍ، تظل اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية لـ25 مليون نيْجري، وتكثر المنظمات الثقافية ضمن مجموعة الدول الفرنكوفونية؛ وهي تلك الدول التي تُوحِّدها لغة موليير.

علاوةً على ذلك، لعب الفساد الصريح أيضًا دورًا في الحفاظ على نظام ما بعد الاستعمار؛ حيث تضم رابطة Françafrique دولًا تشتهر بانتهاكات حقوق الإنسان، ولم تكن النيجر استثناءً، فطالما تجاهل القادة الصوريون التابعون لفرنسا تحقيق التقدم الديمقراطي، في مقابل الحصول على برامج مساعدات ضخمة، كما تم دَفْع الرشاوى من خلال صفقات الأسلحة، وغيرها من أشكال المساعدة الأمنية، وبالطبع نقدًا في صورة أموال سائلة تم غَسْلها عن طريق الأنظمة المصرفية الإفريقية.

كان تدفُّق الأموال دائمًا في اتجاهين؛ حيث قدّم الأفارقة أيضًا حقائب مليئة بالنقود لكبار السياسيين الفرنسيين؛ فالرئيس السابق نيكولا ساركوزي -وهو بالفعل مُجرم مُدَان- تمَّ اتهامه بقبول الملايين من الزعيم الليبي الراحل، العقيد معمر القذافي، على سبيل المثال، في حين أنه ينفي هذا الاتهام.

ويظل الإرث الأكثر ديمومة للاستعمار الفرنسي هو فرنك سيفا (الجماعة المالية الإفريقية CFA)؛ وهي عملة كانت مرتبطة في السابق بالفرنك الفرنسي، والآن باليورو، مما يمنح فرنسا هيمنة نقدية على العديد من الدول الإفريقية، بما في ذلك النيجر.

ولطالما دعّمت الولايات المتحدة مثل هذه الترتيبات الاستغلالية لفرنسا؛ في الأصل لأن المستعمرات الفرنسية السابقة كانت تُعتَبر معاقل ضد التأثير الجيوسياسي والأيديولوجي للاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. وتمتد فكرة كون فرنسا حامية إفريقيا؛ وتلعب دورًا حيويًّا في الحرب ضد المتمردين والإرهابيين مثل تنظيم القاعدة وغيره في منطقة الساحل الشاسعة، والتي تمتد حول اثنتي عشرة دولة؛ من إريتريا حتى السنغال مرورًا بالنيجر.

ومع ذلك؛ فإن مشكلة فرنسا الكبرى هي أن النيجريين -مثل العديد من الأفارقة- يرفضون وجود فرنسا في إفريقيا؛ بنفس القدر من الحماسة التي كان أسلافهم يرفضون بها الإمبراطورية الفرنسية الرسمية. بهذا المعنى، فإن الهيمنة التقليدية لفرنسا باتت في طَوْر التفكك.

وعلى الرغم من تلقّي ما يصل إلى ملياري دولار سنويًّا من المساعدات التنموية؛ تظل النيجر واحدة من أفقر البلدان على وجه الأرض؛ حيث يبلغ معدل الإلمام بالقراءة والكتابة 37٪ فقط. وقد كان من المقرر أن يخصص الاتحاد الأوروبي 503 ملايين يورو للنيجر في السنوات الثلاث القادمة حتى عام 2025م، لكنَّ التأثير المستمر لفرنسا وحلفائها لا يزال هو المتَّهم الرئيس بتفاقم المشاكل الضخمة في النيجر، بما في ذلك البطالة الجماعية بين الشباب.

والنيجر فقط هي أحدث دولة في المنطقة تشهد انقلابًا، بعد مالي في عامي 2020م و2021م وبوركينا فاسو (مرتين) في عام 2022م، وكلاهما مستعمرتان سابقتان استقلتا أيضًا عن فرنسا في عام 1960م.

وفي المجمل فإن المشاعر السلبية تجاه فرنسا في ازدياد في منطقة غرب إفريقيا، بينما تهدد القوى المنافسة الأخرى، مثل روسيا وتركيا والصين، بأن تستغل تلك المشاعر لصالحها.

وقد حذر المجلس العسكري في بوركينا فاسو ومالي بالفعل من أنَّ أيّ محاولة لاستعادة بازوم في النيجر من خلال التدخل العسكري ستُعْتَبر إعلانًا للحرب عليهم. في غضون ذلك، تعمل القوات التي تعمل لصالح مجموعة المرتزقة الروسية فاغنر داخل الدول المجاورة للنيجر، وقد عرضت دعمها لقادة الانقلاب العسكري في النيجر.

وفي إشارة ذات دلالة؛ فقد رفع المتظاهرون الأعلام الروسية أمام السفارة الفرنسية في نيامي، ودعا الكثيرون فلاديمير بوتين ليحل محل ماكرون كأكبر داعم عالمي لهم. وهذا يثير احتمالية “التدافع والتنافس على إفريقيا”، وهو الوصف الكلاسيكي للطريقة التي احتلت بها القوى الأوروبية أجزاء من القارة حتى الحرب العالمية الأولى. وإذا اشتدت -كما يبدو مرجحًا– وتيرة الكراهية لفرنسا، فعندئذ تتزايد احتمالات حدوث عمليات إجلاء كاملة للوجود الفرنسي، لتشمل الجنود ذاتهم، وبذلك تكمل الدول الإفريقية الفرانكفونية الرئيسة في إفريقيا جنوب الصحراء عملية إنهاء الاستعمار الفرنسي في النهاية.

ويظل المسار الأكثر تفضيلاً للنيجر والدول الإفريقية الأخرى التي سلكت طريقًا مشابهًا هو أن تختار لأنفسها حُكمها الذاتي، ومِن ثَمَّ المسار الديمقراطي، ولكن على الأرجح فإنَّ الدول ذات السجل الأسوأ في الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان وكل مشكلات سوء الإدارة سوف تتحرَّك هي من أجل ملء ذلك الفراغ الناتج عن الانسحاب الفرنسي المحتمل.

نبيلة رمضان / صحفية فرنسية

المصدر:مجلة قراءات إفريقية

spot_img