spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

برلسكوني.. السياسة بمنطق الاستعراض والتحشيد

في عالم السياسة الأوروبي، يشكل رئيس الحكومة الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني الذي رحل مؤخراً، حالةً استثنائية من حيث مساره الشخصي وتجربته في الشأن العمومي. عندما وصل إلى السلطة لأول مرة سنة 1994، كان برلسكوني غريباً على المشهد السياسي في هذه الدولة الأوروبية العريقة التي ارتكز نظامها الديمقراطي منذ سنة 1946 على حكم الحزب الديمقراطي المسيحي ومعارضة التيار الشيوعي القوي الذي استقطب جلَّ المثقفين ورجال الفكر.استفاد برلسكوني من انهيار الطبقة السياسية التقليدية التي تعرَّضت في نهاية الثمانينيات إلى تطهير قضائي واسع، كان آخر ضحاياه الزعيم الاشتراكي بينيتو كراكسي الذي قضى أيامَه الأخيرةَ لاجئاً في تونس.

منذ نهاية الثمانينيات استثمر ابن الموظف المصرفي الصغير (برلسكوني) ثروتَه في الأندية الرياضية والقنوات التلفزيونية، فأصبح رئيس نادي ميلانو لكرة القدم ومالك أهم القنوات الخاصة الإيطالية.

وهكذا ولج للعمل السياسي من بوابتي الرياضة والإعلام البصري، وحول ممارستَه السياسيةَ إلى نمط من التعبئة التحشيدية والإغواء الجسدي الغرائزي، على الطريقة الرياضية السينمائية التي تختلف جذرياً عن التقاليد السياسية الإيطالية. في كتاب حول ظاهرة برلسكوني، يبين عالم الاجتماع الإيطالي فيزانجو سوشا أن نجاح الرجل الذي تسمى بالفارس، راجع أساساً إلى كونه هدم الحاجز السميك بين الدولة «الواقعية» التي تتشكل من المجتمع المدني وجموع المستهلكين ومتابعي القنوات التلفزيونية، والدولة «الشرعية» التي تتكون من الطبقة السياسية وكتلة المثقفين العموميين. نلمس هنا الشرخَ الهائلَ الذي عانت منه الديمقراطية الإيطالية ما بين النظام السياسي والنظام الاجتماعي، ما بين الغرائز والقوانين، والكتابة والصورة.

في بلاد تشكّل فيها كرةُ القدم إطارَ التنشئة الاجتماعية الأساسي، حوَّل برليسكوني الجمهورَ الرياضي إلى قاعدة حزبه السياسي («إلى الأمام إيطاليا»)، في حين نقل أساليب الإغراء والتعبئة العاطفية من حيز التواصل والإعلام إلى العمل السياسي. ولذا أطلق عليه سوشا عبارةَ «مسيِّر المخيال الجماعي»، باعتبار أنه أدخلَ إلى صلب الحقل السياسي مقولات وشعارات الأندية الرياضية وبرامج الترفيه التلفزي.

وفي هذا التوجه، لا توجد فروق جوهرية بين الأقطاب السياسية يميناً ويساراً، ففي حكومات برلسكوني الائتلافية يشارك القوميون الفاشيون الجدد من «الحركة الاجتماعية الإيطالية» وبقايا الحزب الاشتراكي الإيطالي والجماعات الانفصالية في الشمال الصناعي الغني.

و كان دور برلسكوني حاسماً في تهيئة الطريق للقوميين الشعبيين للوصول إلى السلطة من ماتيو سالفيني إلى رئيسة الوزراء الحالية جورجيا ملوني. كما أن برلسكوني كان سبّاقاً في أوروبا إلى تكريس الأسلوب الشعبوي في الحكم الذي يرفض الوسائطَ المؤسسيةَ الليبراليةَ والنظم التمثيلية التعدديةَ، ويرى في الذاتية الفردية التجسيد الفعلي لهوية الشعب وروحه الأحادية، مقابل «فساد» النخبة و«عجز» السياسيين. ومع أن الرجل الذي هو أغنى شخصية إيطالية، أحيل إلى القضاء عدة مرات وأُدين في بعض الملفات، وكثُرت الشكوكُ حول تسييره للشأن العمومي من منظور مصالحه النفعية المباشرة، فإنه نجح بالفعل في رمزية الزعيم الشعبي حامل أصوات المحرومين المقهورين، بما عكسته صورة «الفارس» ومنطق القبيلة الذي يتبناه.

وفي مقال حول مسار برلسكوني السياسي، كتب الفيلسوف الإيطالي المعروف جورجيو أغامبن أن «أيديولوجيا الشركة التجارية والسوق والتواصل» قد احتلت الفراغات التي خلَّفها انهيارُ الأحزاب السياسية التقليدية. ومن ثم اعتبر أغامبن أن مشروع برلسكوني قطع الطريق أمام أي إمكانية لتجديد أو إعادة بناء الليبرالية الديمقراطية الإيطالية، بتكريس نمط من «الاستبداد التواصلي» يتمثل في تزييف الحقيقة واللغة والتلاعب والآراء والأفكار.

وعلى الرغم من هذا الحكم القاسي، فلا مناص من الاعتراف أن برلسكوني استطاع بالفعل إحداثَ قطيعة كبرى في الساحة السياسية الإيطالية، ووصل تأثير تجربته إلى المجال الأوروبي الأوسع الذي غدت تحكمه، باستثناءات قليلة، أحزاب قومية شعبوية ومحافظة.

قد يكون برلسكوني هو رجل الأعمال والرياضي الأول الذي وصل للحكم في البلدان الديمقراطية، لكنه لم يكن الأخير، فبعده انتخب رجال أعمال كثر، على رأسهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (الذي يشبه في مساره وخطابه السياسي الزعيم الإيطالي الراحل)، كما نجح رياضيون بارزون في الوصول للحكم مثل لاعب الكريكت الباكستاني عمر خان ولاعب كرة القدم الليبري جورج ويا. وهكذا نخلص إلى القول إلى أن برلسكوني كان في آن واحد الوجه الأول للحياة السياسية الجديدة في الغرب ورائدَ التحول السياسي في الديمقراطيات الليبرالية الغربية.

د.السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

spot_img