التأمت في مدينة بيليم البرازيلية قمة دول حوض الأمازون الثمانية، وهي الدول اللاتينية الأمريكية التي تتقاسم الإطلالة على منطقة الأمازون (البرازيل، وبوليفيا، وكولومبيا، والإكوادور، وغيانا، والبيرو، وسورينام وفنزويلا). ومع أن أجندة المؤتمر ركزت على أبعاد البيئة والمناخ وحماية الغابات، إلا أن الأبعاد السياسية كانت حاضرة بقوة في الاجتماع.
منذ عودة لولا دي سيلفا للسلطة في بداية السنة الجارية، عادت الحيوية لمشروع الاندماج الإقليمي في جنوب ووسط أمريكا، في سياق صعود التشكيلات اليسارية في عموم الإقليم.
وفي الوقت الذي انهارت الأحزاب اليسارية في أوروبا، مع صعود اليمين المتطرف في عدد متزايد من البلدان آخرها إسبانيا التي شهدت تنامي قوة حزب فوكس اليميني المتشدد وفق نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة.
ولقد ذهب البعض إلى أن قسمة اليمين واليسار التي أطرت الحقل السياسي الغربي في القرنين الحاضرين قد انتهت بانحسار الأيديولوجيا الماركسية وانتكاسة أحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي كانت البديل المقبول عن التيارات الشيوعية الراديكالية.
في هذا السياق، ظهرت ثلاث أطروحات كبرى في الساحة الأوروبية: تيار الخط الثالث Third Wave الذي بلوره عالم الاجتماع أنتوني غيدنس وتبناه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، وتيار الليبرالية الاجتماعية الذي هو النسخة المعدلة من الاشتراكية التقليدية باعتماد اقتصاد السوق ومنظومة العولمة، وتيار الديمقراطية التداولية بديلًا عن إخفاقات الديمقراطية التمثيلية الانتخابية.
بخصوص “الخط الثالث” الذي ساد على نطاق واسع في بعض البلدان الغربية (فرنسا في عهد رئيس الحكومة الاشتراكي أمانيال جوسبن، وبريطانيا خلال فترة توني بلير، وألمانيا في عهد المستشار جرار شرودر، والولايات المتحدة في فترة الرئيس الديمقراطي كلينتون)، نلمس محورية ” القيم الليبرالية” في الجوانب الاجتماعية والمدنية للتغلب على ثغرات وهفوات الرأسمالية الاقتصادية والمالية.
أما التيار الليبرالي الاجتماعي فيرجع في جذوره البعيدة إلى الفلسفة الاقتصادية لجون ستوارت ميل وجون كينز، لكنه أصبح هو الخيار الأيديولوجي والسياسي للأحزاب الاشتراكية الأوروبية، التي انتقلت من فكرة التخطيط الاقتصادي والتأميم العمومي إلى فكرة التقدم الاجتماعي ضمن موازين السوق الحرة . ظهر هذا التحول في فرنسا في عهد الرئيس الاشتراكي الأسبق فرانسوا ميتران والمستشار الألماني هلموت كول زعيم الديمقراطية المسيحية.
أما الديمقراطية التداولية فهي مفهوم ارتبط بفكر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وإن كانت له جذور في فلسفة روسو التي انطلقت من مقولة الإرادة المشتركة في رفض المعايير الانتخابية التمثيلية في الديمقراطية التعددية. ولقد تبنى عدد من بلدان أوروبا الوسطى والشمالية خيار الديمقراطية التداولية في تعزيز شرعية الأنظمة السياسية بدل الاستناد على أدوات المنافسة الانتخابية التي غدت عاجزة عن ضبط مقومات ومتطلبات شرعية الأنظمة السياسية.
في العقدين الماضيين، تنامى حضور وتأثير الأحزاب اليمينية المحافظة والحركات الشعبوية ووصل العديد منها إلى مركز السلطة في بعض كبريات الدول الغربية. ولقد أطلق رئيس الحكومة الهونغارية فيكتور أوربان مقولة ” الديمقراطيات غير الليبرالية” على هذا النمط الجديد من الأحكام الذي يتبنى معايير التنافسية الانتخابية مع التخلي عن القيم الأيديولوجية والاجتماعية للفكر الليبرالي من تعددية وحرية فردية وتمايز السلط المؤسسية للدولة.
لا بد من التنبيه هنا إلى أن الديمقراطية غبر الليبرالية تختلف جوهريًّا عن النزعات النيوليبرالية الجديدة التي سادت في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي (الريغانية والتاتشرية)، باعتبار تلك النزعات تستند على أولوية مبدأ الحرية الفردية على المنافع العمومية.
بيد أن صعود الأحزاب اليمينية المحافظة والشعبوية لم يقض على اليسار رغم انهيار التشكيلات الشيوعية والاشتراكية التقليدية، وإن تغيرت نوعيًّا تركيبة وتوجهات اليسار الجديد.
في العقد الماضي، ظهرت أحزاب يسارية جديدة في أوروبا حققت مكاسب انتخابية هامة، مثل ” ائتلاف اليسار الراديكالي” (سيريزا ) في اليونان، وحزب “بوديموس” في إسبانيا، و”فرنسا المتمردة” في فرنسا.
ما تعبر عنه هذه التشكيلات الجديدة هو بروز نمط من ” الشعبوية اليسارية” على غرار اليمين الشعبوي الصاعد. ومن أبرز من صاغ فكريًّا هذا التوجه الفيلسوف الأرجنتيني ” أرنستو لاكلو” والفيلسوفة البلجيكية ” شانتال موف”، وقد أصدرا معًا كتابًا مشتركًا بعنوان ” الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية”.
ينطلق الفيلسوفان من مقاييس ماركسية جديدة، لكنهما يرفضان المقاربة التقليدية للصراع الطبقي التي تنظر إلى التركيبة المجتمعية باعتبارها بنية تصادمية بين قوى اجتماعية متناقضة، دون مراعاة عنصر الوعي الذي هو القوة الدافعة للعمل السياسي.
ومن هنا إعادة الاعتبار لمفهوم ” الهيمنة” الذي بلوره الفيلسوف الإيطالي غرامشي، ويعني من منظور لاكلو وموف قدرة قوة اجتماعية بعينها على تمثيل المنظومة الكلية برمتها.
السياسة من هذه الزاوية هي عمل استراتيجي يهدف إلى بناء كتلة هيمنة في حقل تصادمي وصراعي بين قوى متقابلة، بما يعني رفض ” وهم الإجماع” الذي يسود في الأدبيات الليبرالية التقليدية.
وكما يبين لاكلو في كتابه ” العقل الشعبوي” ليست الشعبوية أيديولوجية معينة، بل هي شكل من البناء السياسي، أي طريقة لرسم الحد الفاصل بين المجموعة والآخرين، بين الفئات العليا والدنيا، بين الشعب والمؤسسة المتحكمة.
السياسة لا تكون إلا تصادمية، استقطابية وفق ثنائية الصديق والعدو التي تحدث عنها الفيلسوف القانوني كارل شميت. ومن هنا اعتبر الفيلسوفان أن تجديد اليسار لا يكون إلا من خلال الآلية الشعبوية التي هي المحدد الإجرائي الجديد للعمل السياسي في الديمقراطيات المعاصرة.
لقد اخترق اليسار الجديد الحقل السياسي الأوروبي، بل إن بعض مكوناته وصلت للحكم فعلًا في بعض البلدان، على الرغم من تراجع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وانهيار التنظيمات الشيوعية التي كانت مهيمنة على الساحة الأوروبية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أما بلدان أمريكا اللاتينية فقد أصبح اليسار الجديد يحكم في أغلبها (سبع دول من بين الدول الثماني الكبرى)، ومع رجوع لولا للسلطة في البرازيل شهد المشروع اليساري انطلاقة جديدة مع الطموح للتوسع عالميًّا.
أ.د السيد ولد أباه / مفكر موريتاني