spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الهوية والاعتراف من المنظور الديمقراطي

عُرف الكاتب الأمريكي فرنسيس فوكوياما بنظريته الشهيرة حول “نهاية التاريخ” التي ذهب فيها بعد نهاية الحرب الباردة إلى أن العالم كله متوجه نحو الديمقراطية الليبرالية التي هي الأفق الأوحد المتاح للإنسانية بعد انهيار الأنظمة الشيوعية الشمولية. عبارة “نهاية التاريخ” تعني من هذه الزاوية اكتمال مسار التحول البشري الذي بدأ مع نشأة العصور الحديثة، نحو الحرية، والمساواة والتقدم العلمي والفكري.
إلا أن فوكوياما انتهى بعد سنوات من إصدار نظريته الشهيرة إلى تلمس الإشكاليات العصية التي تواجهها الديمقراطية الليبرالية في مهادها الأصلي، أي في المجتمعات الغربية، بما يتناوله في كتابه الهام “الهوية: مطلب الاعتراف وسياسات الامتعاض” – Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment ( صدر سنة 2018).
في هذا الكتاب الذي لم يحظ بعناية واسعة في الأدبيات العربية، يظل فرنسيس فوكوياما وفيًا لقراءاته الهيغلية التي تركزت هذه المرة حول جدلية الاعتراف التي تناولها هيغل في كتابه الرئيسي “فينمونولوجيا الروح” من خلال ما عرف بجدلية “السيد والخادم” المتعلقة بتصادم أنماط الوعي في المجتمعات الحديثة.
بيد أن فوكوياما يتجاوز هذا المنحى الفلسفي المعقد، لكي يستعرض بعض جوانب المأزق السياسي الراهن للمجتمعات الليبرالية الغربية، التي تشهد بحسب وتأثر ومستويات متباينة نفس الإشكالية الهوياتية التي غدت المحرك المحدد للحياة السياسية في جل تلك البلدان.

في هذا الكتاب؛ يلاحظ فوكوياما أن حقوق الاعتراف المترتبة على مبدأ المواطنة المتساوية في المجتمعات الديمقراطية الحرة لم تعد كافية لاستيعاب مطالب الهويات الجماعية في النسيج السياسي التعددي.
لقد بدأ هذا المسار في الأوساط اليسارية التي تبنت مبكرًا مطالب الحركات المدنية والحقوقية في التعبير السياسي والاعتراف القانوني، قبل أن تتمحور هذه التوجهات الهوياتية في الأوساط اليمينية، حيث نلمس صعود الحركات الشعبوية المدافعة عن ما تعتبره النسيج الأصلي للمجتمع في البلدان الغربية، في مقابل “تهديد” الأقليات الثقافية والدينية وتحدي الهجرة الخارجية الوافدة أساسًا من الجنوب.

ومن هنا ندرك الطابع الإثني الديني لليمين القومي الجديد الذي يتبنى مفهومًا جوهرانيًا جامدًا للهويات الجماعية يتعارض

ضرورة مع مرجعية الديمقراطية الليبرالية وتصورها للمجتمع المفتوح .على هذا الأساس، يدعو فوكوياما إلى الرجوع لمقولة الهوية الوطنية المندمجة التي هي التعبير عن فكرة المجموعة الديمقراطية التي تستوعب أفرادًا متنوعين متعايشين بانسجام دون قهر أو تهميش.
صحيح أن مفهوم الهوية الوطنية ظهر في البداية في أوروبا لدى النزعات القومية العدوانية المتطرفة، لكنه خضع من بعد لمعايير الديمقراطية الليبرالية في ساحات كثيرة. في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وفي بلدان أوربية عديدة أسست تصورات الهوية القومية على أسس دستورية ومدنية تجمع بين المواطنين في بناء مشترك تحكمه قيم الحرية، والمساواة والتعددية. إن الخطر الذي يهدد المجتمعات الديمقراطية الغربية حسب فوكوياما يتمثل في في السياسات الهوياتية التي تقوم على الخصوصيات المجموعاتية الضيقة بما يتنافى مع المنظور الليبرالي المفتوح الذي كرسته فلسفات التنوير والحداثة.
ولا يتردد فوكوياما في القول إن المبادئ الثلاثة الكبرى للديمقراطية الليبرالية (المصالح العمومية للدولة، والنظام القانوني المستقل والسلطة المقيدة المسؤولة) تواجه اليوم تحديات عصية ليس فقط في الأنظمة التسلطية الأحادية التي تجمع بين الاقتصاد شبه الرأسمالي والحكم الفردي الاستبدادي (مثل الصين)، وإنما أيضًا في البلدان الديمقراطية العريقة. ففي هذا البلدان، نشاهد وصول حكام شعبويين للسلطة عن طريق الشرعية الانتخابية، لكنهم يبادرون إلى استغلال هذه الشرعية من أجل إضعاف دولة القانون ونظام المؤسسات المستقلة. ولقد أطلق الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان على مثل هذه الأنظمة مقولة “الديمقراطية غير الليبرالية” التي هي مصطلح متهافت وزائف. في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، نلمس هذا الخطر ذاته، بصعود التيار الشعبوي اليميني نتيجة لعاملين أساسيين: اقتصادي يتعلق بحركية العولمة التي كانت في مصلحة أقلية قليلة من المحظوظين على حساب فئات عمالية واسعة تعرضت للانتكاسة والتهميش، وسياسي بانهيار نظام توازنات السلطة الذي أفرز التحكم الانتخابي في القرار في يد قوى مصالح منظمة قادرة على كبح كل مبادرة مناوئة لخياراتها الضيقة. وهكذا شل الحقل السياسي من جراء حالة الاستقطاب الحادة التي تركت أثرها المدمر على الطبيعة الديمقراطية للدولة.

ولا شك في أن الحركات الشعبوية استفادت من هذا الشلل، ونجحت في تسويق شعار “الانحطاط الثقافي” للقوى “الأصلية”، بإضفاء سمة هوياتية على التصدعات الاقتصادية الجديدة الناتجة عن حركية العولمة. ومن هنا محورية موضوع الهجرة في الخطاب السياسي للنزعات اليمينية الصاعدة.

أهمية أطروحة فوكوياما تكمن في تنزيله للمثال الديمقراطي في سياق مطلب الاعتراف والكرامة، أبعد من منطق التمثيل السياسي والتداول السلمي على السلطة. في هذا السياق، يرجع إلى مقولة “تيموس” الأفلاطونية التي تعني حق الاعتراف واحترام الإنسانية. في الثورات الديمقراطية الأخيرة التي عرفتها بلدان عديدة في إفريقيا وآسيا، كان مطلب الاعتراف حاضرًا بقوة، وكان هو الخلفية الحقيقية لمحاربة الأنظمة التسلطية التي تهين كرامة الإنسان وتنتهك حقوقه الجوهرية. ومن دون هذا الاعتراف، تتقلص النظم الديمقراطية إلى بيروقراطيات انتخابية شكلية لا جدوى منها ولا قيمة لها.

لا شك في أن أطروحة فوكوياما تستوقف اهتمامنا عربيًا، حيث نلمس الانفصام الخطير بين مطلبي الهوية والاعتراف، أي بين مقومات الذات القومية العليا وحقوق الفرد من حيث هو كائن حر له كرامته ومطالبه السياسية المشروعة. لقد وظفت الشعارات الهوياتية في عالمنا عادة لطمس حقوق الاعتراف، والفصل بين الديمقراطية من حيث هي نظام من الحريات السياسية والمسطرة الإجرائية الانتخابية التي لا فائدة منها إن لم تنغرس في قيم الحرية، والمساواة والتعددية.

المطلوب هنا هو الانتقال من نموذج الهوية القومية المغلقة بالمفهوم العضوي الجوهراني الجامد إلى نموذج الهوية المفتوحة المستوعبة لدلالات الاختلاف والتنوع والقادرة بهذا المعنى على ضمان حقوق الإنسان وكرامته.

spot_img