مفهوم “الهوية السردية” يرجع للفيلسوف الفرنسي المعروف “بول ريكور” الذي بلوره في عدة أعمال، من بينها كتابه المحوري “الذات بصفتها آخر”.
كانت نقطة انطلاق ريكور هي الفلسفة التأملية الفرنسية التي تعود جذورها البعيدة إلى ديكارت في مقولة “الكوجيتو”، أي الوعي بالذات من حيث هي محور الفكر وأساس اليقين والحقيقة.
وعلى عكس الفلاسفة التفكيكيين مثل فوكو ودريدا الذين نادوا بالقطيعة مع الذاتية، ظل ريكور محافظًا على مركزية الوعي الذي هو بالنسبة له الأفق المرجعي للنزعة الإنسانية الحديثة، لكن الأمر هنا يتعلق حسب عباراته بوعي متهدم أو جريح، ليس في علاقة شفافة مع نفسه، بل تتوسط هذه العلاقة المغايرة والأخرية في كل محطات تشكل الذات.
من هذا المنظور، يعيد ريكور تصور الهوية من خلال الوقوف على هذه الوسائط من كلام، وعمل، وفعل أخلاقي وسرد، مميزًا في هذا السياق بين مفهومين متمايزين للهوية هما “الهوية العينية” (Identité Mêmeté) و”الهوية الذاتية” (Identité Ipseite). الهوية بالمعنى الأول جامدة لا تتغير بفعل الزمن على شكل الطبيعة الثابتة، بينما تكتسي في الدلالة الأخرى معنى التغير، والتجدد والاختلاف.
لا بد من التنبيه هنا إلى أن ريكور لا يتحدث عن الزمن بصفته الوجودية المطلقة، بل عن نمط تشكله في الحكاية والسرد حيث يعيد الإنسان إنتاج هويته عن طريق الخطابات، والقصص، والأساطير والروايات الجماعية.
في السرد بمفهومه العام، يخرج الإنسان من النواة الجوهرية لوجوده المستمر، ويدخل في علاقة جديدة مع الزمن مفتوحة على صيغ مستقبلية ورهانات عملية متعددة.السرد أفق للعيش ومجال لحوار ممتد، ضمن مجموعة قيمية ننتمي إليها ونشارك في صنع هويتها بواسطة الحوار الذي سبقنا بالضرورة.
ومن هنا اهتمام ريكور بالصيغ السردية الكبرى مثل القصص التوراتية المقدسة والأساطير اليونانية، معتبرًا أن هذه النصوص تفتح باب التفكير وتتناول المعضلات الإنسانية الكبرى التي لا يمكن للفلسفة العقلانية أن تحسمها مثل مشكل الشر الذي شغل الفلاسفة في كل العصور.
هنا تبرز أهمية المنظور التأويلي الذي ينطلق منه ريكور في معالجته لمفهوم الهرمنوطيقا الذي يعني إجمالًا فن الفهم سواء كان موضوعه الأحلام، أو الشرائع، أو الأساطير أو النصوص. في هذا الباب، يميز ريكور بين نوعين من التأويلية هما “تأويلية الشك” كما ظهرت لدى فرويد، ونيتشه وماركس، والتأويلية الغائية الفياضة الحاضرة في فكر هيغل وكارل ياسبرز. الصنف الأول من الهرمنوطيقا يركز على التفسير بالرجوع إلى الخلفيات المحددة بإبراز الحواجز اللغوية والتاريخية والسياقية التي تفصلنا عن النص، والصنف الثاني يركز على الفهم بتأكيد انتماء الفرد إلى العالم الذي يأول النص من داخله.
بالنسبة لريكور لا بد من الجمع بين نوعي التأويل: الفهم والتفسير، المسافة والانتماء، والتقليد والنقد، مع تجاوزهما في نمط من التأويلية “الشعرية” التي تستكشف معاني النص الرحبة باستقلال عن قصد مؤلفه وسياق التلقي الأصلي وظروف تشكل هذا النص تاريخيًا واجتماعيًا.
وهكذا يتحول النص من تراث منفصل عنا أو تقليد لا يمكن الخروج عنه، لكي يغدو عالمًا واسعًا قابلًا لأن نسكن فيه وفق صيغ ودلالات متجددة تختلف نوعيًا عن ما نعتقد أنه أصله المرجعي الثابت.
أهمية أطروحة ريكور بالنسبة للفكر العربي الراهن، هو كونها تنقلنا خارج الجدل العقيم حول المسألة التراثية التي شغلت الخطاب العربي المعاصر طيلة عقود طويلة.
ما كانت تعنيه عبارة التراث (ولعل المفكر السوري الراحل طيب تزيني هو أول من صاغها قبل أن يتلقفها الجابري وحسن حنفي وغيرهما) هو اعتبار النص التقليدي مدونة مفصولة عن عالمنا الحالي، ومن هنا ضرورة تطبيق المناهج النقدية الجديدة في قراءتها وتأويلها.
لقد ولدت هذه المقاربة ما كان محمد عابد الجابري أطلق عليه “جدلية الوصل والفصل في قراءة التراث”، ويعني بها الوعي بضرورة وضع مسافة نقدية مع هذه النصوص المرجعية مع الإحساس في الوقت نفسه بعبء هذه النصوص التي هي مقوم الانتماء والهوية بالنسبة للإنسان العربي والمسلم. ومن هنا التنقل الدراماتيكي بين نقدية تجاوزية مطلوبة منهجيًا ومستحيلة عمليًا، ونزعة انتمائية ضرورية وصعبة الصياغة والتصور في الآن نفسه.
ومن هنا ندرك كيف وظفت المقولات الإبستمولوجية الجديدة في قراءة التراث باستخدام تأويلية القطيعة، والفصل وتاريخية المفاهيم خارج سياقها الأصلي الذي هو تاريخ العلوم لا التقليد الديني والثقافي.
إن هذا التذبذب المنهجي يفسر حسب اعتقادنا بطغيان التصور الطبيعي للهوية بامتداداته التأويلية، أي التشبث بفكرة الهوية العينية من حيث هي التعبير عن ذاتية مكتملة وواعية. الهوية العربية من هذا المنظور تقوم على اعتبارات ثقافية ثابتة غدت عبئًا على الوجود العربي المعاصر، في الوقت الذي لا يمكن تصور هذه الهوية بمنأى عن محدداتها التراثية الجوهرية.
ومن ثم يصبح السؤال المطروح هو كيف يمكن تصور هوية قومية، وحضارية حديثة وراهنة بمنأى عن اعتبارات الماضي والتقليد؟ هل يكون الطريق هو إبداع هوية قومية عبر الصياغة العلمانية التنويرية للذاتية العربية على أساس لغوي شعوري محض، أم على أساس إعادة تأويل انتقائي للمرجعية التراثية نفسها؟
لا يبدو أن الفكر العربي خرج من هذا المأزق النظري والمنهجي الواضح في مشاريع قراءة التراث التي هيمنت على العقود الثلاثة الماضية.
المطلوب اليوم هو الانتقال من النقدية والتاريخانية والإبستمولوجية التي طبعت الفكر العربي المعاصر في تصوره للهوية التراثية إلى النموذج التأويلي وفق الآفاق الواسعة التي بلورتها نظرية ريكور حول الهوية السردية. ما تسمح به هذه النظرية هو الخروج من سجن الذاتية الجامدة المتمحورة حول نفسها إلى نمط من الذاتية المفتوحة التي تتجدد من خلال الممارسة التأويلية المستمرة والمتسعة، بحيث لا يكون النص لا أصلًا خارج التاريخ ولا ماضيًا متجاوزًا، بل هو مجال لحوار لا ينقطع ومدار لهوية يعاد إنتاجها دون توقف.