لم يعد ثمة شك في أن النفوذ الفرنسي في أفريقيا بات يواجه معضلةً قد تنطوي على مقدمات لنهايته، وأهم المؤشرات في هذا الصدد سلسلة الانقلابات التي شهدتها السنواتُ الأخيرة في بلدان كانت مستعمراتٍ فرنسيةً سابقة، وانطوت جميعها على توجهات مناوئة للنفوذ الفرنسي، وكان آخرها انقلاب النيجر الذي أعقبه مباشرةً انقلابٌ آخر في الغابون الغنية بالنفط، فيما الطريقة المثلى لمواجهة انقلاب النيجر ما زالت محل جدل وترقب.
وعلى الرغم من أنه من السهولة بمكان الاكتفاء في التعامل مع ظاهرة الانقلابات المتزايدة على أنها مجرد انقلاب على الشرعية ينبغي عزله وعقابه، إن لم يكن قمعه بالقوة بتدخل عسكري تبنته «الإيكواس» بتشجيع ظاهر من فرنسا، فإن الاكتفاء بهذا النهج سوف ينطوي على قصور واضح، ذلك لأن لهذه الانقلابات أسباباً بنيوية تجعل من النهج العقابي وحده نهجاً عقيماً ومحدود الفائدة. ولنبدأ القصة من أولها.
كان الرئيس الفرنسي شارل ديجول الذي حكم فرنسا لعقد كامل بعد أن أتى بخلفيته العسكرية إلى السلطة صاحبَ نظرة استراتيجية أنضجتها خبرة حرب التحرير الجزائرية، وبالتالي أدرك أن بقاء الاستعمار الفرنسي في أفريقيا في صورته التقليدية ضرب من المحال.
وهكذا خَيّر المستعمرات الفرنسية بين الإبقاء على العلاقة الاستعمارية مع فرنسا أو الاستقلال عنها مع الاحتفاظ برابطة خاصة معها، أو الاستقلال التام، واختارت جميع المستعمرات الخيار الثاني عدا غينيا التي اختار قائد حركة تحريرها وأول رئيس لها أحمد سيكوتوري الخيارَ الثالث.
وفي إطار «الرابطة» التي انطوى عليها الخيار الثاني تأسست علاقة التبعية البنيوية التي أسماها كوامي نكروما قائد تحرير غانا «الاستعمار الجديد»، وذلك في كتابه الشهير الذي حمل الاسم ذاتَه.
وكان جوهر هذه العلاقة هو الاستقلال الشكلي وضمان الحماية للنظم الأفريقية حديثة الاستقلال، مقابل استمرار استغلال شركات فرنسية للموارد الاستراتيجية كاليورانيوم والنفط والغاز. وهكذا نشطت الشركات الفرنسية الكبيرة والصغيرة في تلك البلدان، وحرصت فرنسا على تعزيز هذه العلاقة ببناء نظم سياسية رئاسية تَسْهُل ممارسة النفوذ عليها من خلال رجل واحد، وتوطيد العلاقة مع المؤسسات العسكرية من خلال توريد السلاح وتأهيل الضباط.
كما ربطت عملةَ تلك البلدان المسماة بالفرنك الأفريقي بالفرنك الفرنسي ثم باليورو، مما يمنعها من اتباع سياسة نقدية مستقلة، بل إن بعض الدراسات تتحدث عن تبعية المناهج التعليمية في تلك البلدان للمناهج الفرنسية.
وهكذا تصاعد الغضب الشعبي، وبالذات في أوساط الشباب، عبر الزمن. وليست هذه الانقلابات في جانب أساسي منها على الأقل سوى انعكاس لهذه الأوضاع البنيوية. لذا فإن أزمة النفوذ الفرنسي الراهنة في غرب أفريقيا ليست لها حلول سهلة، لأنها تقتضي تغييراً جذرياً في السياسة الفرنسية تجاه تلك البلدان لا أحسب أن التركيبة السياسية الراهنة في فرنسا قادرة عليه.
وتتفاقم المعضلة بفعل عاملين آخرين، أحدهما داخلي، وهو إجماع المعارضة اليسارية واليمينية على نقد السياسة الفرنسية الراهنة في أفريقيا. أما العامل الثاني، فهو خارجي ويتمثل في أن النفوذ الفرنسي في هذه البلدان يواجه منافسةً شرسةً من روسيا والصين. والأخطر أن السياسة الأميركية تجاه انقلاب النيجر الأخير تشير إلى أن واشنطن طرف في لعبة التنافس على تصفية النفوذ الفرنسي في أفريقيا.
د. أحمد يوسف أحمد / أكاديمي مصري
المصدر: صحيفة الاتحاد الإماراتية