في أبوظبي، نظم «مركز الإمارات للسياسات» مؤتمرَه الحادي عشر، الأسبوع الماضي، حول وضع النظام الدولي الذي يتسم، حسب عنوان الملتقى، بالاضطراب وغياب قواعد دقيقة ضابطة لتوجهاته ومساراته. «ملتقى أبوظبي الاستراتيجي»، الذي نظمه المركز الذي تَرأسه المفكرة الإماراتية البارزة الدكتورة ابتسام الكتبي، كان فرصة ثمينة للإطلالة على القضايا والأزمات الدولية الراهنة من خلال العروض والنقاشات التي ساهم فيها خبراء ومفكرون من مختلف مناطق العالم.
الإشكالية الأساسية التي طرحها الملتقى تمثلت في تحديد طبيعة العلاقات الدولية الجديدة، وهل تقوم على التنافس بين القوى العالمية المؤثرة أم على التنازع بينها أم هي مظهر لتفكك المنظومة الدولية التي لم يعد لها محور قيادي؟
كان من الطبيعي أن تطغى على النقاشات عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلطة في لحظة فارقة من تاريخ الولايات المتحدة التي تشهد صراعاً داخلياً حول الخيارات المجتمعية الأساسية بين القوى الليبرالية المتعولمة والأوساط المحافظة القومية التي تتبنى مسلكَ العزلة والانكفاء، وترى أن حماية الريادة الأميركية في العالم لا تتم إلا عن طريق السلطة الطاغية التي ترفع القيود والضوابط التي تحد من حركية البلاد وتطورها.
في الملتقى الاستراتيجي هيمنت الحرب الأوكرانية والصراع الاقتصادي الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين على أجندة النقاش، حيث اعتبر الكثيرون أن الموضوعين يحيلان إلى الظاهرة نفسها، ألا وهي تراجع النفوذ الأميركي في المجالين الحيويين بالنسبة للمصالح الأميركية، وهما أوروبا والعالم الهندو- باسفيك. وإذا كان الفكر السياسي الأميركي قد بدأ ينتقل تدريجياً منذ حقبة الرئيس أوباما إلى التركيز على الفضاء الآسيوي، على حساب أوروبا الغربية والشرق الأوسط، وليست لحظة ترامب رغم خصوصياتها سوى امتداد لهذا التحول، فإن روسيا التي دخلت في ما أسمته أجندة المركز «مقامرة الشتاء» ترى في التوجهات الأميركية الجديدة فرصتَها لاستعادة مواقع نفوذها التقليدية في شرق أوروبا، مع تعزيز جبهتها الآسيوية بالتحالف مع الصين والقوى الإقليمية المتمردة على السيطرة الأميركية.
لا يبدو أن الاستراتيجية الصينية تنزع إلى المواجهة، ولا هي ميالة لمنطق الثنائية القطبية الجديدة (الصراع المباشر مع الولايات المتحدة)، بل تعتبر أن المكاسب التقنية والاقتصادية والجيوسياسية الهائلة التي حققتها في السنوات الأخيرة، كانت بفضل الفرص التي وفّرتها لها حركية العولمة والتبادل التجاري الحر، ولذا فإنها تطرح نفسَها على العالم بديلاً عن الولايات المتحدة التي قررت الانغلاق على نفسها، مع الوعي بأن مصالحها المحورية تتطلب الحفاظ على روابط مكينة مع أميركا التي لا تزال قلب المنظومة الاقتصادية العالمية.
ومن هنا ندرك الفوارقَ النوعية بين المقاربتين الروسية والصينية، رغم ما يظهر من تحالف وثيق بين البلدين، فروسيا في عقيدتها العسكرية الجديدة ترى أن مصالحها العليا تتوقف على صناعتها الحربية المتقدمة وأسلحتها النووية المتطورة، تطمح من خلال هذه العقيدة إلى إعادة تقنين قواعد اللعبة الدولية الحالية. أما الصين التي ليست لها إرادة نفوذ جيوسياسي دولي، فترى أن مصالحها الحيوية تتطلب الحضورَ الفاعل والمؤثر في منافذ ومسالك التجارة الدولية، والإسهام الناجع في الصناعات التقنية الجديدة.
أين موقع الشرق الأوسط بمفهومه الواسع الذي يشمل جنوب المتوسط وشمال أفريقيا ومجال البحر الأحمر في هذه الخريطة الدولية الجديدة؟ تحدّث الملتقى عن أزمات المنطقة، من الحرب المستمرة في غزة ولبنان، ومآلات الصراع العربي الإسرائيلي، وأفق الدولة الفلسطينية المنشودة، والموضوع الإيراني في جانبيه (الفرصة والمعضلة)، كما تناول الحروب العربية المنسية في كل من ليبيا والسودان واليمن وسوريا، وظهر بجلاء أن الإقليم الذي ترشحه كل الدراسات المستقبلية كمركز قوة عالمي فاعل، ما زال بحاجة إلى معالجة جراحه وترميم بنائه المتداعي، وطرح أفكار ثاقبة تؤهله للإسهام في تشكيل وصياغة عالم الغد.
ولقد كان حديث معالي الدكتور أنور بن محمد قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، في بداية الملتقى حول الديبلوماسية الإنسانية التي تتبناها الإمارات في معالجة الأزمات الدولية هاماً وعميقاً، وقد بيّن فيه أن السياسات الاستراتيجية يجب أن لا تُختزل في عناصر القوة والتحكم، بل يجب أن تستند إلى القواعد القانونية والأخلاقية والاعتبارات الإنسانية التي يفترض أن تكون الإطار المحدِّد لكل عمل سياسي وكل توجه استراتيجي.
وخلاصة القول هي أن ملتقى أبوظبي الاستراتيجي كشف عن جوانب أساسية من أزمات النظام الدولي الراهن، الذي يعيش في مرحلة اضطراب حاد تقتضي المتابعة اليقظة والمبادرات الذكية الشجاعة.