spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

المعيقون لإصلاحات غزواني

خلال الحملة الرئاسية لمأموريته الثانية كرر الرئيس غزواني أكثر من مرة عزمه إدخال إصلاحات جوهرية، تقرب الخدمة من المواطن، وتمنع احتكار النافذين والوجهاء لخدمات الصحة والتعليم، وتوجهها إلى وجهتها الصحيحة، بالإضافة لإجراءات تحد من الفساد وتحاربه في منطلقاته ومرتكزاته البنيوية.

شرع رئيس الجمهورية فعلا في إدخال هذه الإصلاحات العميقة، التي رسمها هو شخصيا وكلف الحكومة بتنفيذها مع متابعة دائبة وصرامة كاملة في الإلزام بتنفيذ المهام في المواعيد المحددة لها، كما شدد الرئيس في أكثر من مناسبة على أن اللحظة لحظة عمل وأنه لا وقت للجدل الفارغ.

هذه الإصلاحات تنطوي بالضرورة على إجراءات مؤلمة للبعض، وتستفز قوى وازنة ومؤثرة، ولذلك طالما ترددت الأنظمة السابقة في تنفيذها، أو تلكأت فيه، أو تراجعت عنها قبل أن تصل مداها. ولم يستطع نظام قبل هذا أن يصل بها إلى حيث تنتج تأثيرا كافيا لتغيير الأوضاع، لكن تصميم الرئيس غزواني الثابت وقدرته الفائقة على التعامل الهادئ والناجع مع الضغوط مكناه من المضي قدما بعزيمة وإصرار.

أهم قوى مقاومة سياسات الإصلاح هي، بدون منازع، مراكز النفوذ المالي التي تعودت امتصاص خيرات البلد واستغلالها لحساباتها الخاصة، عبر نسيج محكم ومعقد من الشركات والمؤسسات والمكاتب الاستشارية والوسطاء والموظفين المحسوبين على أصحاب النفوذ. ولا شك أن هذه الفئة غير مرتاحة الآن للإصلاحات البنيوية التي بدأت تضع حدا للفوضى، من خلال اعتماد معايير محددة، واضحة وصارمة، لا ظلم فيها ولا محاباة، يتم تطبيقها بمهنية وهدوء، دون صخب إعلامي أو غوغائية سياسية، ودون تساهل أو تشهير.

أول هذه الإصلاحات التي يغذي المتضررون منها حملات الفيسبوك الآن تَمثّل في إخضاع جميع الشركات التي تستفيد من صفقات الدولة لتصنيف موضوعي صارم حسب القطاعات (الطاقة، المياه، البناء، الخدمات، الإنشاءات الخ)، حيث يتعين على كل شركة أن تُثبت، من خلال ملفها الضريبي، وملفها الاجتماعي المتعلق بالتزاماتها تجاه عمالها، ومستندات الجمارك ذات الصلة بنشاطها، أهليتَها للمشاركة في المناقصات والحصول على الصفقات التي تتقدم لها. ويتم التحقق من كل هذه المتطلبات بالرجوع إلى نظام رقمي تتم معالجة بياناته آليا.

هكذا لم يعد بإمكان الشركات الوهمية ولا الشركات غير المؤهلة الحصول على صفقات خارج مجال اختصاصها أو خارج نطاق قدراتها المالية والفنية؛ وبذلك ولى عهد شركات المواد الغذائية والترانزيت التي تفوز بصفقات المباني والطرق، كما لم يعد بإمكان شركات صغيرة ذات موارد وخبرات محدودة أن تنافس على صفقات الإنشاءات الكبرى، بل يجب عليها أن ترتقي سلم الاستحقاق بالتدرج والجدارة المناسبين؛ وبالمقابل، تتم حماية المقاولات الناشئة من منافسة الشركات الكبرى في المستويات المتاح للشركات الصغيرة أن تنافس فيها. وفي ذات السياق، ألزم الرئيس غزواني حكومته باعتماد قائمة سوداء تضم الشركات التي تخل بالتزاماتها التعاقدية مع الدولة.  لذلك من المتوقع والمفهوم أن يتحرك المتضررون من هذه الإصلاحات – وهم كثر – وأن يقاوموها بشراسة من أقل مظاهرها شأنا وإن كان أكثرها بروزا حملات النقد والتشكيك والتلفيق التي تملأ الصالونات والمكاتب فضلا عن وسائط التواصل الاجتماعي سعيا إلى ترسيخ صورة سوداوية للواقع والمستقبل. ‎

الفئة الثانية من مقاومي الإصلاح تمثلها طبقة من المقاولين الفاشلين الذين مردوا على التساهل في تنفيذ الصفقات العمومية وتعطيل المشاريع متسببين في عرقلة جهود التنمية والإساءة لصورة الحكومة وسمعتها. من هؤلاء من حصلوا قبل سنوات على منح لآلاف الهكتارات الصالحة للاستغلال الزراعي، لكن لم يستغلوها ولم يتركوا فرصة لغيرهم ليستغلها. لذلك تقررت مصادرة نصف المساحات غير المستغلة ومنح المستفيد مهلة محددة لاستغلال البقية وإلا تمت استعادتها منه. وقد مكنت هذه الإجراءات من استعادة آلاف الهكتارات التي كانت معطلة وتسريع الاستثمارات في آلاف أخرى.

ثمة فئات أخرى لا تقل شأنا من حيث الحرص على عرقلة الإصلاحات والتشويش عليها وتشويه صورتها. من هذه الفئات تجار الأدوية الذين ألزموا منذ شهرين، ولأول مرة في تاريخ البلد، باستيراد الأدوية في حاويات مكيفة ونقلها إلى مدن الداخل في باصات مكيفة، كما تم إلزامهم بتعريف الأدوية بأرقام تسلسلية حتى يسهل تتبعها.
‎من هذه الفئات أيضا شركات التامين التي طالما اعتادت الإثراء على حساب المواطنين دون تقديم أي مقابل، ودون أي دور يذكر في التشغيل، وحتى دون الوفاء بالتزاماتها الضريبية، والتي أصبحت اليوم ملزمة باعتماد تطبيقات رقمية تحول دون التزوير وتحد من الاحتيال، فضلا عن التوجه المعلن لإلزامها من الآن فصاعدا باحترام التزاماتها تجاه زبنائها. ولكل ذلك ليس مستغربا أن ينخرط هؤلاء بقوة في حملات تشويه وتتفيه الإصلاحات.

لا يختلف عن هؤلاء موقف المتضررين من الإصلاحات العقارية المتمثلة في ضبط ورقمنة قواعد البيانات العقارية وتحرير الدومين العمومي ووضع الحد تدريجيا للفوضى العقارية، ويأتي في طليعة هؤلاء ما يعرف بمافيا العقارات والأذرع المتعاونة معها في مختلف قطاعات وأجهزة الدولة.

يضاف إلى هؤلاء وأولئك المتضررون من رقمنة الإجراءات والخدمات الإدارية في قطاعات الرواتب والضرائب والحالة المدنية والمياه والكهرباء والقضاء، وغيرها من القطاعات التي باتت خدماتها متاحة للمواطن بطرق مباشرة، ميسرة وشفافة، تحد من عراقيل البيروقراطية التقليدية وتقلل من مخاطر الارتشاء والزبونية، فضلا عن دورها في تعزيز إحساس المواطن بالكرامة وتجنيبه مخاطر الابتزاز. اليوم يتقاضى المدرس علاوته وفق نظام معلوماتي شفاف دون منة من مدير، ويدفع المواطن غرامته دون إهانة أو احتكاك بهذا الموظف أو ذاك، ويسحب المواطن كل وثائقه عبر تطبيق هويتي من دون طابور، ويستطيع حتى أن يستخرج صحيفة سوابقه العدلية أو نسخا من شهاداته المدرسية من أي بقعة أراد.
‎ويجد هؤلاء سببا إضافيا لمناهضة الإصلاح يتمثل في مراجعة ميزانيات التسيير وإلغاء البنود غير الضرورية والحصص المبالغ فيها وإعادة توجيهها نحو مشاريع استثمارية ذات مردودية مؤكدة ومعتبرة، مثل المشاريع التي تم الإعلان عنها لتنمية مدينة نواكشوط وولايات الداخل.

إلى هؤلاء جميعا تنضاف فئة من المواطنين استمرت، طوال عقود ممتدة، نهب وتبديد المقومات التي تعتمد عليها خدمات الماء والكهرباء لدرجة باتت معها شركتا الكهرباء والماء على حافة الإفلاس وتعاني بشكل مستمر من أوضاع تهدد استدامة وانتظام هذه الخدمات الأساسية لحياة المواطنين. ومن الطبيعي أن تستشعر هذه المجموعات تأثير  الإصلاحات التي يشهدها هذان القطاعان والتي وضعت حدا للفساد و التسيب ومكنت  الشركتين من ترشيد استغلال مواردهما وتحسين أدائهما التجاري واستعادة توازنهما المالي.

هذه نماذج من المتخادمين الذين يتشبثون بامتيازات غير مستحقة ومنافع غير مشروعة. ولأنهم اعتادوا إفشال كل إصلاح فهم يعملون اليوم بكل ما يملكون من قوة على عرقلة سياسات غزواني الإصلاحية الشاملة التي أطلقت بشكل متزامن ورشات إصلاح متعددة ومتكاملة ومؤثرة بما يكفي ليصدر عن هؤلاء كل هذا الضجيج ويظهروا كل هذا الانفعال. لهذا السبب كان غزواني حين أكد في حديث له قبل وصوله إلى السلطة أن مقاومة الإصلاح الأخطر هي تلك المتوقعة من الداخل، وبالذات من المنظومة الحاكمة التي تربت على هذا المنهج ويصعب تخليها عنه.

تستغل هذه الفئات وتضع في صدارة المشهد  وكلاء من الموظفين السابقين الذين استغنى الرئيس عن خدماتهم لأسباب مختلفة، بعضها يتعلق بصلاتهم المشبوهة بدوائر النفوذ المالي، وبعضها يتعلق بديناميكيات التوازن داخل النظام فتحولوا إلى أدوات تستخدم في حملة شعواء على إصلاحات رسمها غزواني بنفسه وأراد أن يؤسس بها لتحولات عميقة تمتد آثارها الإيجابية إلى ما بعد سنوات حكمه وتطلق مسار حكامة صالحة لا يمكن لأي كان وقفه.

تدعم هؤلاء قوى تقليدية لم تستوعب رؤية غزواني في ملف اللحمة الوطنية التي أعلنها من ودان وعبر عنها لاحقا في أكثر من مناسبة؛ وهي رؤية قوامها تكريس المواطنة المتساوية، وإعلاء شأن الكفاءة والجدارة، ووضع حد لكل أسباب ومظاهر الغبن والازدراء التي طالما عانت منها الفئات المغبونة.

لا أثر في خطاب كل هؤلاء المهزوز والمرتبك لأي حديث إيجابي عن هذه الإصلاحات ولا عن الإنجازات المتسارعة وآثارها البارزة والآفاق الواعدة التي تفتحها. كل ما يهمهم هو ترويج الشائعات والتشويش على الإصلاحات، وآخر حملاتهم في هذا السياق تلك التي تستهدف مبادرة الحوار وقرار الرئيس غزواني بأن لا يستثني أحدا، حيث طفقوا يفتعلون المشاكل مع هذا الطرف السياسي أو ذاك، ويستعجلون نقاشا سابقا لأوانه حول رئاسيات 2029 التي لا يفكر فها الآن إلا هؤلاء المعارضون لإصلاحات الرئيس الذين يستعجلون نهاية مأموريته متمنين أن تنتهي قبل أن تكتمل هذه الإصلاحات الجوهرية التي ستمنح فترة حكم غزواني، بنهجه السياسي الحكيم وإصلاحاته البنيوية المستديمة،  أثرا يتجاوز الأفق الزمني  لمأموريتي حكمه.

spot_img