ماذا يعني المثال الديمقراطي إن لم يكن تحقيق مجتمع عادل في إطار تصور غير تسلطي للسياسة يكفل حرية الفرد وانعتاقه؟
مهما كانت صعوبة التعريف المعياري لمقولة الديمقراطية التي لم تكن لها دومًا شحنة إيجابية في الفكر الليبرالي الحديث، لا خلاف على كون غايتها هي تحقيق العدالة الكاملة داخل مجتمع من الأفراد الأحرار، حتى لو كانت صيغها المؤسسية تظل دومًا قاصرة عن تحقيق هذا المثال في أهدافه المطلقة والنهائية.
في كتابه “مجتمع المتساوين”، يبين بيار روزنفالون أن مفارقة الوضع السياسي الحالي في البلدان الغربية تكمن في أن تزايد مطالب التحرر الديمقراطي يواكبه تفاقم الاختلالات الاجتماعية من تفاوت، وغبن وتمايز طبقي.
ذلك ما يدعوه روزنفالون بالتمزق الداخلي في الديمقراطية الذي يعتبره خطرًا مهددًا للممارسة الديمقراطية ذاتها، إنه التناقض بين “الديمقراطية بصفتها نظامًا سياسيًا” و”الديمقراطية من حيث هي منظومة اجتماعية”.
خلال الثورتين الفرنسية والأمريكية، كان التجاوب قائمًا بين شكلي الديمقراطية وفق ثلاثة نماذج متمايزة هي: التشابه العضوي بين الأفراد (التماثل)، وتميز مجتمع الأفراد (الاستقلالية) وتعاضدية الرابطة المدنية (المواطنة).
الفرد في المجتمع الديمقراطي الكلاسيكي هو إذن المواطن المستقل المتماثل مع غيره ضمن وحدة عضوية مندمجة ومنسجمة.
لقد قلبت الثورة الصناعية الرأسمالية هذه الصورة من خلال الخارطة الطبقية التي أفضت إليها، بما ولد وقتها الأيديولوجيات الثورية الراديكالية والفوضوية، التي أرادت قلب النظام الاجتماعي، بينما طور الفكر الليبرالي آليات جديدة للحد من أشكال التفاوت والغبن القائمة مثل السياسات الرقابية والضريبية.
بيد أن هذه السياسات لم تكن تصدر عن مفهوم المساواة الشاملة المطلقة، بل مجرد تكافؤ الفرص، وعدالة الاستحقاق والمسؤولية الفردية. تلك هي التصورات التي تبنتها التيارات الليبرالية الجديدة، وهي في عمومها تتأسس على مقاربة فردية متطرفة، تنظر إلى الأشخاص في ذاتيتهم المنفصلة دون أي ارتكاز اجتماعي، بما يعني تبرير وتمويه التفاوت الاجتماعي وتحويله إلى قاعدة شرعية للعدالة.
في هذا السياق، يدعو روزنفالون إلى إعادة بناء نظرية المساواة في الفكر الديمقراطي انطلاقًا من نماذج ثلاثة جديدة هي: التميز مقابل التماثل بما يعنيه هذا المفهوم من ضرورة الاعتراف بالهويات الخصوصيات الثقافية والمجتمعية، والتشاركية في مقابل الاستقلالية بما يدل عليه هذا المصطلح من إدماج أفكار وتمثلات القوى الاجتماعية والمدنية في صلب مثال العدالة، والترابطية في مقابل المواطنة وفق متطلبات بناء العالم المشترك ضمن تصور جديد للسياسة يراعي أهمية المصالح العمومية والإرادة المشتركة.
ما يهمنا في نظرية روزنفالون هو التنبيه إلى أن المطلب الديمقراطي في الساحة العربية راهنًا، لا بد من أن يراعي أمرين أساسيين هما: طبيعة التحول الهائل الذي حدث داخل المدرسة الليبرالية نتيجة ضغط المسألة الاجتماعية، وتجدد الخطاب الديمقراطي نفسه من حيث أدواته النظرية وصيغه المؤسسية.
بخصوص المسألة الأولى، لا بد من الإشارة إلى أن خلفية دعاة الديمقراطية من الجيل الليبرالي العربي الكلاسيكي تركزت حول فكرة الحرية الفردية بما تقوم عليه من معاني الإرادة الذاتية المستقلة والوعي الحر، في حين شكلت آلية التمثيل الانتخابي الحر الأداة المثلى لتكريس هذا النموذج السياسي.
وهكذا؛ لم يقف هذا الجيل على المعوقات الموضوعية للتحول الديمقراطي في البيئة الاجتماعية العربية: من هياكل عصبية وبنيات ثقافية.. إلخ. إنه الجهد الذي برز بوضوح خلال العقدين الأخيرين في أعمال مفكرين بارزين من أمثال: هشام شرابي، وحليم بركات، وخلدون النقيب ومحمد جابر الأنصاري، وغيرهم. بيد أن هذه الأعمال ولدت أحيانًا وهم الانغلاق الاستبدادي للمجتمعات العربية أي استحالة تحولها إلى النظام الديمقراطي الحر، مع أن إدراك الخصوصيات الثقافية والتركيبة المجتمعية للبلدان العربية يحمل على بلورة النماذج الملائمة لهذه البلدان لا الحكم عليها مسبقًا ودون دليل بالجمود واللاتاريخية. لقد أثبتت التجارب العالمية المختلفة أن كل الثقافات تختزل معاني العدالة، والمساواة والحرية (كما أثبت الفيلسوف وعالم الاقتصاد الهندي أمارتيا سن)، كما أن كل الهياكل المجتمعية قادرة على التأقلم مع النظم المؤسسية الديمقراطية.
أما بخصوص المسألة الثانية، فلا بد من الإشارة إلى أن عواصف الربيع العربي كشفت عن أوجه القصور في الفكر الليبرالي العربي الذي لم يستوعب التحولات الفكرية الكبرى التي عرفها العالم الراهن في موضوعات البناء الديمقراطي.
ومن هذه التحولات موضوعات ثلاثة كبرى تسيطر حاليًا على الفلسفة السياسية الغربية، وهي: تحدي الاعتراف أي المطالب الهوياتية على الأصعدة المختلفة في مجتمعات شديدة التنوع لا يمكن ضبطها بآليات التعددية التقليدية، وتحدي الإنصاف الذي يعني الانتقال من مبدأ العدالة التماثلية إلى عدالة القدرات الفعلية والتضامن المدني، وتحدي التمثيل الذي يعني مضاعفة وتطوير دوائر المشاركة والتداول العمومي في ما وراء زمنية الانتخاب القصيرة والتفويض النيابي المطلق.
في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ظهرت في الفكر الليبرالي العربي أطروحتان أساسيتان لكسر معادلة الاستبداد السياسي، هما أطروحة “تجسير الفجوة بين المثقف وصانع القرار”، وأطروحة “الكتلة التاريخية الدافعة للتغيير الديمقراطي”.
الأطروحة الأولى هي التي بلورها منتدى الفكر العربي في عمان، وشارك في تطويرها عدد من المفكرين والسياسيين ذهبوا إلى ضرورة التقريب بين المثقف الطامح إلى الإصلاح السياسي والحاكم الذي لا مفر له من قبول استحقاقات المشاركة والتمثيل الشعبي. ولقد عكست هذه الفكرة الجديدة الانتقال الواضح من منطق الثورة الراديكالية والحلول الانقلابية الجذرية، إلى منطق الإصلاح المحدود والمتدرج.
أما الأطروحة الثانية، فقد استلهمت تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة في أوروبا الجنوبية، وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي تمت في الغالب ضمن صفقة سلمية ترتكز على التنازل والمسارات التوافقية بين الأنظمة الحاكمة والحركات الاحتجاجية.
لقد أثبتت موجة “الربيع العربي” وجاهة الأطروحتين، وكشفت عن مخاطر التغيير العنيف والجذري، وما تحتاج إليه الساحة العربية راهنًا هو الانطلاق من تركة الإصلاح السياسي العربي للوصول إلى معادلة مأمونة وفاعلة للانتقال الليبرالي في المجتمعات العربية.