علمت من المفكر اللبناني الراحل منح الصلح أن مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ميشال عفلق كان يعدّ قبل وفاته لتجديد المشروع القومي العربي، وقد أسس لهذا الغرض حلقة خاصة كان من بين أفرادها محمد عابد الجابري من المغرب وهشام جعيط من تونس.
لا ينتمي الجابري وجعيط للتيار القومي بمفهومه الأيديولوجي الضيق، رغم اهتمامهما الواسع بالفكرة العروبية تصورًا وتاريخًا.
ومع أن الوثائق المتعلقة بمشروع عفلق الأخير لم تصلنا، إلا أن مرحلة الثمانينيات التي ظهرت فيها المبادرة تميزت بسمات أربع لا شك في أن لها أثرًا عمليًّا في طبيعة هذه التوجهات: القطيعة النهائية بين جناحي حزب البعث في العراق وسوريا، والمقاطعة العربية لمصر بعد اتفاقيات كامب ديفيد، ونهاية الحرب الباردة التي اكتملت في الأيام الأخيرة من سنة 1989، وتوقف حركة “الثورات” العسكرية القومية في البلاد العربية.
لقد بدا من الجلي أن المفاهيم التقليدية في الأيديولوجيا العروبية لم تعد تتناسب مع الواقع الراهن. كان عفلق على اطلاع واسع على اتجاهات الفكر السياسي الأوروبي المعاصر الذي كرس قطيعة كاملة مع فكرتي الهوية والأمة في دلالتهما الكلاسيكية. نبعت الفكرتان من التقليد الرومانسي في تصوره للأمة من حيث هي وحدة عضوية لها وعي جماعي وضمير روحي مشترك في مقابل التصور التعاقدي الاصطناعي للرابطة السياسية المنظمة .
ومن ثم فإن مقومات الهوية الأساسية تتركز في الروابط الجوهرية للكيان الثقافي من لغة وتاريخ ووحدة شعورية.
لقد نفذت هذه التصورات إلى فلسفة هيغل في فكره السياسي حيث يذكر بوضوح في كتابه “مبادئ فلسفة الحق” أن الدستور السياسي هو ” نظام الدولة بصفته سيرورة حياتها العضوية في علاقاتها بذاتها “. فالدولة من هذا المنظور ليست حالة قانونية أو إجرائية بل هي التعبير عن روح الأمة ووعيها الأخلاقي.
كنا قد تناولنا سابقًا خلفيات هذا التصور الرومانسي للهوية والأمة وأثرها في الفكر القومي العربي، وهو التصور الذي تجاوزه الفكر السياسي المعاصر في مسلكين:
· المسلك الليبرالي الجديد الذي أعاد بناء فكرة الشرعية السياسية على أساس نظريات العدالة التوزبعية والنقاش العمومي بدلًا من أطروحة النفعية الفردية التي كانت هي الإطار السابق للنظرية الليبرالية.
· المسلك المجموعاتي الذي استند إلى اعتبارات التعددية الثقافية والتنوع القيمي والحضاري من حيث هي محددات تدخل في صلب المنظومة السياسية وفي عمق الاعتبارات الحقوقية التي لا تنغلق في الحقوق السياسية والمدنية الفردية .
ما أراده عفلق ومفكرو القومية العرب الجدد هو إعادة تأسيس البناء السياسي لفكرة الأمة العربية من منظور المقولة المحورية في الأيديولوجيا العروبية التي هي مقولة الوحدة .
لقد تزامن هذا التوجه مع المشروع الذي طرحه عدد من المفكرين والناشطين السياسيين في نهاية السبعينيات بإنشاء مركز لدراسات الوحدة العربية، يتجاوز التصنيفات والاصطفافات الحزبية والحركية في أفق التفكير المتجدد في إمكانات وصيغ الاندماج العربي في ضوء الحركية الفكرية العالمية.
من أهم التوجهات الجديدة للفكر العروبي استيعاب التصور الديمقراطي الليبرالي للجسم السياسي، أي المقاربة التعددية التصادمية للفعل السياسي الذي لا يمكن أن يدار وفق منطق المركزية الحزبية والإجماع الوطني .
كان عفلق الذي ابتعد في سنوات حياته الأخيرة عن بغداد ودمشق ممتعضًا من فشل الأنظمة البعثية في التحول الديمقراطي وقد تخلى بوضوح عن أطروحة المركزية الحزبية التي صاغها في الأربعينيات واعتبر أنها لم تعد تلائم الوضع الحالي للمجتمعات العربية.
في سلسلة مقالات متتالية، طور المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري هذه الأطروحة الديمقراطية التي ذهب إلى أنها الأفق الجديد للنظرية القومية العربية.
بالنسبة للجابري، لا بد للأيديولوجيا القومية أن تتخلى عن عزمها التعبير عن الروح الكلية للأمة، من منطلق تباين وتمايز وتنوع مكونات ومصالح الجسم الاجتماعي. فإذا كان الوعي القومي صلبًا ومتجذرًا لدى القطاع الشعبي العريض، إلا أن هذا الوعي لا يمكن أن يكون سقف إجماع سياسي ولا يمكن لحزب أو نظام سياسي أن يجسد لوحده مضمون هذا الشعور القومي .
وفي البلدان التي تضم مكونات غير عربية كما هو جل الأقطار العربية، لا يمكن اختزال معايير المشاركة السياسية في الوعي القومي بما يؤول إلى إقصاء أجزاء كاملة من الجسم الاجتماعي، فيكون هذا الإقصاء سببًا في الحروب الأهلية والصراعات الإثنية والعرقية.
لقد طرح الجابري ذو الأصول الأمازيغية (البربرية) مفهوم العروبة الحضارية خيارًا بديلًا عن العروبة العرقية، وفق ما هو قائم في شمال إفريقيا حيث يكاد يتماهي الانتماء الإسلامي والانتماء العربي، معتبرًا أن شعار العلمانية الذي واكب نشأة الفكر القومي في المشرق يعكس طبيعة البنية الدينية التعددية في تلك المناطق ذات التركيبة المتنوعة في الاعتقادات والملل .
يبدو أن مفهوم المواطنة بدوائر متعددة الذي بلوره الفلاسفة المجموعاتيون وفي مقدمتهم تشارلز تايلور يتلاءم مع الواقع الاجتماعي والسياسي العربي. ما يعنيه هذا المفهوم هو أن البعد القانوني والسياسي للمواطنة الذي تركز عليه النظرية الليبرالية يشكل محور الهوية السياسية المشتركة للمجموعة المنظمة على اختلاف معتقداتها وقيمها الاجتماعية، وهو مفهوم يقوم على محددات المساواة، والحرية والتضامن وفق نظم قانونية وإجرائية عادلة ومنصفة .
بيد أن الأمر هنا يتعلق بمستوى واحد من مستويات المواطنة، ولا يشمل جوانب أساسية أخرى تتعلق بمقومات الأخوة والانتماء القومي والهوية الثقافية، وهي اعتبارات لا بد من دمجها في صلب المواطنة لأن الإنسان ليس ذرة سلبية معزولة بل هو كائن ينتمي لحاضنة قومية وتقليد رمزي سابق عليه لا يمكنه الانفكاك منه .
ما نريد أن نخلص إليه هو ضرورة الخروج من الجدل العقيم حول أولوية الهوية الوطنية أو الهوية القومية. فمن البديهي أن لكليهما أبعاده ومقتضياته التي لا بد من أن تبرز في طبيعة النظام السياسي، أو بعبارة أخرى أن التحرر الوطني شرط للتحرر القومي، وبناء دولة المواطنة هو الطريق الفعال إلى دولة الاندماج القومي.
السيد ولد اباه مفكر موريتاني