يقصد بالمشرق العربي، في مخطط التفتيت الذي يقترحه ينون على الحركة الصهيونية، منطقة تشمل ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، وهي الأرض التي لم تجرؤ إسرائيل حتى الآن على ضمها رسميًا بعد، إضافة إلى الأردن ولبنان وسوريا والعراق. وإذا كان اهتمام الحركة الصهيونية بتفتيت الدول أو المناطق العربية الأخرى، بما فيها مصر والمغرب العربي ومنطقة الخليج، يعود إلى اعتبارات يغلب عليها الطابع الأمني أو الاقتصادي، فإن اهتمامها بتفتيت الدول الواقعة في منطقة المشرق العربي يعود إلى اعتبارات يغلب عليها الطابع الوجودي والأيديولوجي في الوقت نفسه. لذا لا تكتفى المخططات الصهيونية المتعلقة بتلك المنطقة بالتطلع إلى تفتيت دولها وإعادة رسم حدودها من جديد، لكنها تشمل أمورًا تتعلق بتوسيع الحدود الجغرافية للكيان الصهيوني وإصرار هذا الكيان على الاستيلاء على أراض جديدة في هذه المنطقة واستيطانها تمهيدًا لضمها، كما تشمل في الوقت نفسه حرص الكيان الصهيوني على إحداث تغييرات ديموغرافية واسعة النطاق، بما في ذلك التهجير القسري للسكان.
ترتبط رؤية “ينون” للمشرق العربي، فى الاستراتيجية التى يقترح على الحركة الصهيونية أن تتبناها، ارتباطًا عضويًا برؤيته لطبيعة الدولة اليهودية وحدودها. إذ يعتقد “ينون”، فى سياق هذه الرؤية، أنه لم يعد هناك أي داع للتمييز بين حدود 1948 وحدود 1967، لأن المهم بالنسبة لإسرائيل هو أن تكون حدودها آمنة، بصرف النظر عن موقع هذه الحدود على الخريطة الجغرافية. فالحدود الآمنة في مفهومه هي تلك التي تتطلب من إسرائيل سيطرة على كل المنطقة الواقعة «بين النهر والبحر»، والمقصود هنا ليس مجرد السيطرة العسكرية أو السياسية والاقتصادية على تلك المنطقة، وإنما ربط هذه السيطرة في ذهنه بالعمق الديموغرافي الذي يتطلب تواجدًا سكانيًا كثيفًا لليهود في مختلف أنحاء هذه المنطقة، والذي بدونه لن يكون لإسرائيل في تقديره أي مستقبل من المنظور الاستراتيجي. هذا الفهم الخاص جدًا للحدود الآمنة هو ما دفعه لتحديد موقفه من قضية التسوية مع الدول العربية. فهو يرفض تمامًا أي تقسيم للأرض الفلسطينية، وبالتالي يرفض منح الفلسطينيين دولة أو حتى حكمًا ذاتيًا، لأنه يرفض وجودهم أصلًا على أي شبر مما يعتبره أرض إسرائيل التاريخية. من هنا معارضته التامة لاتفاقيات كامب ديفيد ولكل المشروعات الإسرائيلية التى تتحدث عن عودة إسرائيل إلى حدود 1967 أو عن حكم ذاتي للفلسطينيين على أي جزء من الأرض الفلسطينية. ولأنه يعتقد أن التركز السكاني لليهود في المناطق الساحلية المطلة على البحر المتوسط، والتي كان عندما شرع في كتابة دراسته حوالي 75 في المئة من إجمالي السكان، يشكل خطرًا استراتيجيًا كبيرًا على أمن إسرائيل، فقد راح يقترح على صناع القرار في إسرائيل سياسة سكانية جديدة تركز على الانتشار والسيطرة على المصادر المائية الممتدة من بئر السبع حتى الجليل الأعلى, وعلى اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لتأهيل المناطق الجبلية لتصبح قابلة للاستيطان تمهيدًا للقيام بعملية هندسة ديموغرافية واسعة النطاق تستهدف إعادة توزيع السكان بما يتناسب مع متطلبات أمن الدولة اليهودية على المدى الطويل. ويبدو واضحًا تمامًا من هذا الطرح أن متطلبات الأمن هذه، وفقًا لتصور “ينون”، لا تعني سوى شيء واحد، وهو إخلاء المنطقة الممتدة من البحر إلى النهر من السكان العرب، بمن فيهم عرب 1948.
هل معنى ذلك أن “ينون” لا يعترف بوجود شعب فلسطيني أو بحق هذا الشعب فى تشكيل دولته المستقلة؟ لا، على العكس، فهو يعترف بوجود الشعب الفلسطيني, بل وبحقه في إقامة دولته المستقلة, ولكن خارج نطاق حدود إسرائيل الآمنة، أي في المنطقة الواقعة فيما وراء الضفة الأخرى لنهر الأردن! لذا لم يكن من المستغرب أن يدعي أن الأردن هو فلسطين وأن فلسطين هي الأردن، بل إنه يقول بالحرف الواحد إن “عمان لا تقل فلسطينية عن نابلس”. لذا يكفي من وجهة نظره تمكين الأغلبية الفلسطينية من السيطرة على مقاليد الحكم في الأردن لتصبح هناك دولة فلسطينية وتنتهي المشكلة, وبالتالي تحل «القضية» التي فشلت حكومات إسرائيل المتعاقبة فى التعاطي معها! وبهذه البساطة الفجة لا يتردد “ينون” في التضحية بأكثر الأنظمة العربية اعتدالًا فى المنطقة، ألا وهو النظام الأردني، لا حبًا في الفلسطينيين، لكن اعتقادًا منه أن تمكينهم من السيطرة على الدولة الأردنية يحل مشكلتهم ويحملهم على القبول بالأردن وطنًا بديلاً لكل الفلسطينيين، بمن فيهم “عرب 48”. ولا شك في أن هذا الطرح كان يبدو، من المنظور العربي، نوعًا من الهرطقة لكنه، من المنظور الصهيوني، عكس في الواقع رؤية التيار الأكثر عمقًا وتأثيرًا فى فكر وتاريخ الحركة الصهيونية. ولأن “ينون” يدرك إدراكًا واعيًا أن هذا «الحلم الصهيوني» غير قابل للتحقيق إلا على حطام الدول العربية القوية أو المركزية، فقد كان من الطبيعي أن يحاول الإيحاء بأن جميع الدول العربية، والتي تبدو في ظاهرها كبيرة أو قوية عسكريًا، بما فى ذلك مصر، قابلة للانهيار والتحلل إلى مكونات صغيرة وضعيفة، وبالتالي لا يمكن أن تشكل تهديدًا لإسرائيل على المدى الطويل.
حين نشر “ينون” دراسته (1982) كانت الأوضاع في لبنان تجري بطريقة جعلته يبدو مطمئنًا تمامًا إلى أن رؤيته للمنطقة قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. فقد كان لبنان في ذلك الوقت دولة منهارة اقتصاديًا ومقسمة، بفعل الحرب الأهلية المستعرة هناك منذ منتصف السبعينيات، إلى خمس مناطق، تقف على رأس كل منها سلطة شبه سيادية، الأولى: في الشمال، وتتزعمها أسرة فرنجية والثانية: في الشرق وتقع تحت سيطرة سوريا مباشرة، والثالثة: في الوسط تسيطر عليها «القوات اللبنانية»، والرابعة: بمحاذاة نهر الليطاني وتسيطر عليها منظمة التحرير الفلسطينية، والخامسة: في الجنوب المحاذي لإسرائيل ويسيطر عليها الرائد سعد حداد، رغم أغلبيتها الشيعية. ومن الواضح أن “ينون” كان على قناعة تامة بأنه يمكن لإسرائيل تحويل لبنان إلى خمس دويلات طائفية إذا نجحت فى كسر منظمة التحرير الفلسطينية عسكريًا، وفى إضعاف الوجود السوري هناك «وهو ما جرت محاولة لاختباره فعلًا حين أقدمت إسرائيل على غزو لبنان بعد أشهر قليلة من نشر دراسته. وبينما كان لبنان يبدو دولة مفروغًا من أمر تقسيمها فى ذلك الوقت، فإن سوريا والعراق كانتا تثيران القلق بسبب قوتهما العسكرية، ومع ذلك فقد بدا “ينون” مطمئنًا تمامًا إلى أنهما مرشحتان بدورهما للانهيار بسبب عوامل التحلل والتفتت الكامنة في بنيتهما السياسية والاجتماعية. فقد اعتقد أن سوريا لا تختلف كثيرًا عن لبنان، خاصة من المنظور الطائفي، رغم وجود نظام عسكري قوي فيها، لأنه نظام تسيطر عليه أقلية لا تتجاوز 12 في المئة من السكان، وبالتالي لن يكون باستطاعته احتواء المعارضة السنية القوية. ولأن “ينون” بدا على يقين من أن لبنان سيتفكك رسميًا لا محالة خلال فترة قصيرة، ربما لا تتجاوز عدة أشهر، فقد توقع أن سوريا ستتبعه حتمًا على نفس الطريق، ومن ثم فلن يكون بوسعها أن تقاوم طويلًا تلك العملية التاريخية التي يراها حتمية. أما فيما يتعلق بالعراق، فقد كان يرى أن تركيبته الطائفية لا تختلف كثيرًا عن التركيبة الطائفية للدول المحيطة به. ففيه أقلية سنية تسيطر على النظام السياسي وتوجهه إلى حيث تريد، وهو أمر لن يكون بوسع الأغلبية الشيعية أو الأقلية الكردية أن تقبل به على الدوام، ولولا ما يتمتع به النظام الحاكم من قوة عسكرية وموارد نفطية كبيرة لما أصبح حال العراق أفضل كثيرًا من حال لبنان أو سوريا. ومع ذلك فقد اعتقد “ينون” أن المستجدات التى طرأت على الوضع الإقليمي، خاصة بعد اندلاع الثورة الإسلامية فى إيران ونشوب الحرب العراقية-الإيرانية، تدفع في اتجاه تعميق التناقضات الطائفية، وربما تؤدي إلى اندلاع حرب أهلية، وبدا واضحًا أن ينون يتمنى اندلاعها في أقرب وقت بل ويستعجلها. ولأنه كان يدرك أن قوة العراق العسكرية تشكل تهديدًا استراتيجيًا خطيرًا على أمن إسرائيل، فلم يكن على استعداد لقبول تسامح إسرائيل مع استمرار وضع كهذا، لكنه بدا مطمئنًا وعلى ثقة تامة من أن العراق لن يخرج من حربه مع إيران معافى، وأن ضعفه المحتمل سينتهي به فى الأحوال كافة إلى التفتت إلى ثلاث دويلات، على الأقل، إحداها سنية في الوسط والأخرى شيعية في الجنوب والثالثة كردية في الشمال.
قد يقول قائل الآن، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا من نشر دراسة “ينون” أن الأمور في المشرق العربي لم تسر بالضبط وفق نفس السيناريو الذي توقعته هذه الدراسة، غير أن نظرة واحدة على ما يجري الآن في كل من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، يؤكد بما لا يدع المجال لأي شك أن استراتيجية تفتيت العالم العربي كانت وما تزال هي الاستراتيجية المعتمدة لدى المشروع الصهيوني، حتى لو اختلفت في بعض تفاصيلها عن تلك التي اقترحها “ينون” في دراسته منذ ما يقرب من ثلث قرن.
د. حسن نافعة / مفكر المصري