في هذه الأيام المأساوية التي نتابع فيها العدوان الإسرائيلي غير المسبوق على مدينة غزة الذي وصل حد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الشامل، يتعين الرجوع إلى ما سمي منذ القرن التاسع عشر بالمسألة اليهودية في الفلسفة الغربية. سنخصص عدة مقالات لفلاسفة ينحدرون من أصول يهودية، حتى نبين أن النزعة الصهيونية في خلفياتها العنصرية الاستعمارية لم تكن حلًا ناجعًا ولا عقلانيًا للمأزق اليهودي الخاص بالمجتمعات الأوروبية وحدها.
نبدأ هذه المقالات بالفيلسوف الألماني الأشهر كارل ماركس الذي ينحدر من أسرة يهودية، وإن كان يرفض موضوع الانتماء الديني لأسباب فكرية وأيديولوجية معروفة.
كتب ماركس في شبابه نصه الشهير “حول المسألة اليهودية” zur Judenfrage سنة 1843 وقد نشر في العام الموالي في “الحوليات الألمانية الفرنسية” التي صدر منها عدد يتيم.
النص في أصله رد على الفيلسوف الهيغلي الشاب “برينو باور” الذي نشر كتابًا بعنوان “المسألة اليهودية” أثار جدلًا واسعًا في صفوف الأوساط اليهودية في عصره.
في كتابه، يذهب باور إلى القول إن تحرر اليهود لن يكون إلا بتخليهم كليًّا عن هويتهم الدينية في إطار دولة ليبرالية علمانية لا مكان فيها للدين، بل تقوم فيها المواطنة المتساوية على القانون، وحقوق الإنسان والولاء المطلق للكيان العمومي.
يرفض ماركس هذه الأطروحة، لا من خلفيات دينية، بل من منظور نقده للدولة الليبرالية الشاملة التي دافع عنها هيغل في كتابه “أصول فلسفة القانون”.
فإذا كان باور اعتبر أن اليهود لا مكان لهم في أي دولة مسيحية تقوم على الحق المقدس، ولذا فإن ثمن حريتهم هو تخليهم عن دينهم في مقابل تحرر الدولة كليًّا من الدين، فإن ماركس لا يرى أن الهوية الدينية تتناقض مع الحالة الليبرالية في ذاتها. فالمجتمع الأمريكي مثال واضح على كيان متنوع دينيًّا، تصل فيه الممارسة الدينية حدها الأقصى، مع أن الدولة محايدة تمامًا إزاء العقائد الدينية. أما ألمانيا التي كانت تفتقد في منتصف القرن التاسع عشر للوحدة السياسية، فلا يمكن لتحرر الشعوب اليهودية فيها أن يتجاوز مبدأ التسامح الديني بالمعنى اللاهوتي.
ما يصل إليه ماركس هو ضرورة التمييز بين التحرر القانوني والسياسي من جهة والتحرر الإنساني الحقيقي من جهة أخرى. فبالنسبة له لا يمكن أن توفر الليبرالية أكثر من حرية شكلية صورية، تضمن للفرد حقوق المواطنة المجردة والمساواة في الحقوق دون أن يتجسد هذا التحرر في الواقع الاجتماعي الفعلي.
من هذا المنظور اعتبر ماركس أن اليهودية في المجتمع الرأسمالي ليست حالة دينية، بل تؤدي وظيفة اجتماعية فرضتها البورجوازية المتحكمة على الإنسان اليهودي الذي صممت حياته قهرًا في نمط الحياة المالي والتجاري ضمن الماكينة الليبرالية القمعية.
ولقد كتب الكثير حول قول ماركس في هذا النص “إن تحرر اليهود لا يكون إلا بتحررهم من اليهودية”، وقيل إن هذا الكلام يتضمن دلالات معادية للسامية. بيد أن التفكير المعمق في هذه العبارات يحمل على فهم مقولة ماركس في سياقها، حين كان الهامش الوحيد المتاح للإنسان اليهودي في المجتمعات الأوروبية هو القيام بهذه الوظيفة المالية التجارية التي ينظر لها بصفة قدحية سلبية.
أي بعبارة أخرى، إن ما أراد ماركس قوله هو إن التحرر الحقيقي للشعوب اليهودية لن يكون بمجرد منحها حقوق المواطنة والاعتراف القانوني، وإنما بتحقيق المساواة الفعلية والعدالة الاجتماعية الكاملة، في مجتمع متحرر من الاستغلال الطبقي والسيطرة البورجوازية. التحرر هنا لا يتعلق بالوعي الديني أو الهوية الطائفية بل بالنظام الاجتماعي الحر والعادل في مستوياته المختلفة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن تلميذ ماركس الفيلسوف موسيس هس كان أول من بلور فكرة “الوطن القومي لليهود” على أرض فلسطين في كتابه “روما وأورشليم” الصادر سنة 1862. فعلى عكس التصور الاقتصادي الطبقي للثورة التحررية الإنسانية لدى ماركس وإنجلس، اعتبر هس أن المرحلة القومية ضرورية في كل البلدان من أجل الانتقال إلى المجتمع الاشتراكي، وقد اعتمد نموذج النهضة الإيطالية مثالًا لما سماه بـ”الانبعاث اليهودي” المنشود. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يمكن اعتباره الوثيقة الأولى للمشروع الصهيوني، إلا أنه لم ينل اهتمامًا يذكر في الأوساط اليهودية، وإن كان هرتزل في كتابه “دولة اليهود” الصادر سنة 1896 أشاد به واعتبر أنه قال كل “ما يتعين قوله”.
ما نريد أن نخلص إليه هو أن جوهر فكرة ماركس هو رفض النزعة القومية اليهودية من منظور نقده الجذري لفكرة الدولة القومية المعبرة عن الهوية العضوية للشعوب في وعيها الخصوصي. فبالنسبة له لا يكون تحرر الإنسان اليهودي إلا ضمن شروط التحرر الاجتماعي الإنساني الشامل. ولقد شكلت هذه الأطروحة أساس المواقف الماركسية من الموضوع الفلسطيني، حيث نلمس تعاطفًا واسعًا في الحركة الماركسية العالمية إزاء الفلسطيني المستعمر والمعرض للقمع من الماكينة الرأسمالية العالمية التي تشكل إسرائيل أداة من أدواتها. يلاحظ هنا أن كثيرًا من المثقفين اليهود في بداية القرن العشرين ونصفه الأول انتموا إلى الأحزاب الماركسية وتبنوا مشروع التحرر الفلسطيني ومحاربة الصهيونية.
لكن بعض اتجاهات اليسار الأوروبي انحازت إلى الصهيونية التي هيمنت على صيغتها الأولى المقاربة الاشتراكية العلمانية، التي وإن تمسكت بالأساطير الدينية “لدولة الميعاد”، إلا أنها أرادت بناء دولة قومية لائكية، وإن كان يتعين الاعتراف بأن الصهيونية اليسارية انهارت لاحقًا بصفة كلية في المجتمع الإسرائيلي الذي نمت فيه أكثر أشكال الصهيونية الدينية انغلاقًا وتشددًا.
لعل فكرة الدولة العلمانية الديمقراطية الموحدة فوق عموم أرض فلسطين التي تبنتها الحركة الوطنية الفلسطينية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت متأثرة بالأطروحة الماركسية الأصلية المناوئة لفكرة الكيان القومي. وفي مواجهة حركة الاستيطان العنصري وتدمير المجتمع الأهلي الفلسطيني، قد يكون من المناسب إحياء مشروع الدولة الديمقراطية على أنقاض التمييز العنصري الإسرائيلي، بما يشكل بمعنى ما الرجوع إلى الأفق الماركسي الأصلي.