spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

المحظرة الشنقيطية والتراث العالمي

تزامنت الدورة الثانية عشرة لمهرجان مدائن التراث الذي تستضيفه هذه السنة مدينة ولاتة العريقة مع تسجيل منظمة اليونسكو المحظرة الموريتانية على قائمة التراث غير المادي العالمي. والعلاقة بين الحدثين ليست اعتباطية، فمن المعروف أن التقاليد العلمية في بلاد شنقيط (موريتانيا والمناطق المجاورة لها في غرب الصحراء) انطلقت من المدن التاريخية العريقة التي تحتفي بها سنوياً الحكومةُ الموريتانية على أعلى مستوى، وهي مدن ولاتة وتيشيت ووادان وشنقيط.

ولقد شكلت هذه المدن منذ القرن السابع الهجري صروحاً علمية ودينية كبرى، وامتد إشعاعها إلى كل أنحاء المجال الساحلي الصحراوي، ووصلت أصداؤُها المشرقَ العربي. إلا أن المحظرة ارتبطت أساساً بنمط الحياة البدوي الغالب على سكان الفضاء الذي تطلق عليه حالياً تسمية موريتانيا.

والأمر هنا يتعلق بالاستثناء الوحيد المعروف في المجتمعات البدوية التي عادةً ما تخلو من ثقافة عالمة مكتوبة ومتطورة. كان المؤرخ المعروف ابن خلدون يقول «إن العلم صناعة حضرية»، وإن البدو هم أبعد الناس عن «العمران الحضري»، معللاً هذا الحكم بكونهم مشغولين بحفظ العيش في حده الأدنى ولا تتوافر لهم الظروف العملية للاشتغال بالتعلّم والدراسة. ما حدث في موريتانيا منذ بداية القرن الحادي عشر الهجري هو قيام نهضة علمية وأدبية كبرى في مجتمع قبلي بدوي، يتخذ من الخيام سكناً متنقلاً. وهنا يتعين التنبيه إلى أن المجتمع الموريتاني الوسيط استطاع تكييف تقاليده العلمية والتربوية مع الوسط البدوي من خلال النظام الذي عرف بالمحظرة.

والمحظرة هي في آن واحد جامعة موسوعية تشمل مختلف المعارف والعلوم المألوفة في التراث العربي الإسلامي، ونظام حياة وتنشئة اجتماعية متكامل، ومحدِّداً أساسياً من محددات التقاليد الاجتماعية المحلية. ومن حيث الأساليب التربوية تتمحور المحظرة حول شيخ رئيسي له ثقافة موسوعية شاملة تمكِّنه من تدريس مختلف العلوم التي تهم طلبته عبر نظام تدرجي دقيق ينطلق من متون النحو واللغة والمنظومات الشعرية ثم السّيَر والشمائل النبوية، وصولاً إلى الدرسين الفقهي والأصولي المتخصصين، علاوة على مصنَّفات علم الكلام والمنطق، وربما العلوم الطبيعية والرياضية. وفي حين يجمع النظام المحظري بين التكوين الفردي والجماعي من خلال المرونة الواسعة في تقديم المادة التعليمية، فهو يقوم على الحفظ والتلقين وتدريب الذاكرة، ويستخدم تقنيات النَّظم والتلخيص للتحايل على مصاعب المطالعة والبحث في وسط شديد الصعوبة والهشاشة. ومع ذلك تتوافر جل المحاظر (وقد كانت كثيرة منتشرة في كل أصقاع البلاد) على مكتبات نفيسة تضم أحياناً نوادر المخطوطات والكتب محفوظةً في صناديق خشبية تتنقل على ظهور العيس مع البدو.

وفي هذا السياق، أشيرُ على سبيل المثال إلى أن كتاب «الضروري في النحو» للفيلسوف المعروف ابن رشد عثر عليه في إحدى المكتبات الأهلية الموريتانية (مكتبة أهل الشيخ سيديا) وقد حُقق ونُشر، وكان يعتقد أنه ضائع قبل العثور على النسخة اليتيمة منه في هذه المكتبة التي تنقلت طويلاً في مضارب البدو قبل أن تستقر في مدينة بوتلميت. وما تزال كنوز مماثلة غير مكتشفة في المدن التاريخية وفي المحاظر البدوية والريفية. تساءل الباحثون العرب والأجانب عن سر الاستثناء الموريتاني أي عن أسباب نجاح النظام المحظري في المجتمع البدوي الشنقيطي، وقد فسر بعضهم هذا الاستثناء باستمرار التقاليد العلمية المدينية في الوسط البدوي إثر الهجرات المتواصلة من حواضر القوافل إلى الفضاءات المرتبطة بمسالك التجارة الجديدة شرقاً وجنوباً.

ليس من همنا هنا الوقوف عند هذه الخلفيات التاريخية، وإنما حسبنا الإشارة إلى أن المحظرة كانت نقطة الإشعاع الحضاري الأساسية في الصحراء الشنقيطية، إلى حد أن بعض كبار النقاد ومؤرخي الأدب اعتبروا أن النهضة الشعرية العربية الحديثة بدأت من موريتانيا في القرن الثاني عشر الهجري، وأطلق بعضهم على موريتانيا «بلاد المليون شاعر» وانتشرت هذه التسمية على نطاق واسع.

وغني عن البيان أن المحظرة الشنقيطية تراجعت كثيراً في السنوات الأخيرة، رغم الجهود الحكومية للحفاظ عليها من خلال تشكيل قطاع وزاري مختص بالتعليم الأهلي وإنشاء محظرة جامعية حديثة ومعهد عالٍ للدراسات الإسلامية مفتوح لأساتذة وطلبة المحاظر. أحد الشيوخ البارزين من أساتذة المحظرة اعتبر أنها مرتبطة عضوياً بنظام عيش البدو، لذا فإن انحسارها محتوم مع نهاية العصر البدوي الموريتاني، مردداً على سبيل التهكم أن الحضري قد يكون مثقفاً متعلماً لكنه لا يمكن أن يجاري البدوي العالم.

spot_img