بعد قرابة أربعين سنة على رحيل أهم فلاسفة فرنسا المعاصرين، ألا وهو ميشل فوكو، يصدر له في أيامنا هذه كتابٌ أساسي بعنوان «الخطاب الفلسفي»، وهو في أصله دروس جامعية ألقاها في عام 1966. في هذا العام بالذات، نشر فوكو كتابَه المحوري «الكلمات والأشياء» الذي هزّ الحقل الفلسفي العالمي وحوَّله وهو في الثلاثينات من عمره إلى أحد أبرز فلاسفة الغرب المحدثين. وفي كتاب «الخطاب الفلسفي» لا نكتشف الجديدَ في فكر فوكو، وإن كانت أهميةُ هذا العمل تكمن في تقديمه تصوراً مكتملا ومتناسقاً حول الفلسفة من حيث المنحى والوظيفة والمنهج.
وبالنسبة لفوكو لم تعد الفلسفة نمطاً من المعرفة العقلانية المكتملة التي تكشف عن حقائق الوجود وأصوله في ما وراء مظاهر الأشياء وتقلبات المعاني اللغوية، بل أصبحت نمطاً من تشخيص الحاضر، من داخل الخطاب الذي لا يحيل إلى دلالة أصلية ولا حقيقة خفية، بل هو أنساق وتموجات تنبع من داخل المنظومة التعبيرية نفسها. وهنا نلمس شغف فوكو المعروف بالفيلسوف الألماني نيتشه الذي يرجع إليه هذا التصور التشخيصي للفلسفة، في أبعاده التفكيكية النقدية، حيث تنهار مقومات الحقيقة والوجود والأخلاق وفق نظرة تأويلية حيوية شاملة للواقع.
لقد مضى نصف قرن على أفكار فوكو التي شغلت على نطاق واسع المهتمين بالحقل الفلسفي في العالم أجمعه. والواقع أن النصف الثاني من القرن العشرين كان بالفعل فوكويا (وليس دلوزياً كما توقع فوكو نفسه)، بمعنى أنه سادت فيه أفكار الحفر الخطابي والنقد التشخيصي وموت الإنسان.. وتحولت إلى جزء من الثقافة العامة المشتركة. بل إن الانتفاضات الشبابية والاجتماعية الكبرى التي عرفتها بلدان كثيرة في العالم نهاية الستينيات تمت في سياق انتشار أفكار فوكو حول السلطة والرغبة والذات.. إلى حد أن البعض اعتبر أن تأثيرَه في الغرب المعاصر لا يقل عن تأثير روسو وفولتير في الثورة الفرنسية. بيد أن تحولات كثيرة حدثت بعد رحيل فوكو (في يونيو 1984)، وكان هو نفسه قد انتبه إلى إرهاصات بعضها في دروسه وأبحاثه الأخيرة مثل الحالة النيوليبرالية التي اجتاحت العالَم وشكّلت السمةَ الكبرى في ديناميكية العولمة.
لقد هيمن على الحقل الفلسفي الراهن إشكالان كبيران من وحي الثورة التقنية الاقتصادية الحالية: يتعلق أولهما بمعايير الحرية والذاتية في سياق تراجع وانحسار الدولة الوطنية السيادية، ويتعلق ثانيهما بمنزلة الحقيقة مع نشوء الثورة الرقمية التي قوضت الثنائية التقليدية للمعرفة بين الواقع والوهم. وبخصوص الإشكالية الأولى، نلمس أن بعض الفلاسفة الحاليين من أمثال جورجيو أغامبن وتوني نغري، طوروا أطروحةَ «السلطة الحيوية» التي بلورها فوكو في السبعينيات، من منظور جديد. ووفق هذه المقاربة، تكون المعادلة السياسية الجديدة ليست على ما تقدم عادة حالة سياسية ما بعد قومية على أساس الشراكة الاقتصادية، وإنما هي تجسيد لمنطق الدولة الشاملة في الرقابة المعرفية والقانونية الرخوة وتسيير الرغبات الحيوية الجماعية، وصولا إلى ما أطلقت عليه جوشانا زيبوف «رأسمالية الرقابة» التي هي البديل الجديد عن الليبرالية الحرة المفتوحة التي اتسمت بها الدولة القومية التقليدية.
أما الإشكالية الثانية فهي أكثر ارتباطاً بالمبحث الفلسفي الأصلي الذي هو الحقيقة والوجود، مع بروز نقاش نظري جديد حول منزلة الحقيقة في عالم لم يعد فيه من الممكن الفصل بين الوقائع الموضوعية والبناءات التقنية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والاقتصاد غير المادي والشبكات الافتراضية التواصلية. لقد شاعت في السنوات الأخيرة مقولة «ما بعد الحقيقة» التي تحيل إلى ظاهرتين متمايزتين هما من جهة القطيعة الإبستمولوجية مع فكرة القانون العلمي المترجِم للواقع التجريبي، ومن جهة ثانية القطيعة السياسية الأخلاقية مع معايير العدالة والحرية وشفافية المجال العمومي. وفي الحالتين، نحن أمام انهيار المسافة التقليدية بين الوقائع والتأويلات، وبروز ما سماه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب «الحقائق المبنية البديلة».
وقد أصدرت الفيلسوفة الفرنسية كلودين تيرسلين في الآونة الأخيرة كتاباً سجالياً بعنوان «ما بعد الحقيقة أو النفور من الحق»، سعت فيه إلى إنقاذ فكرة الحقيقة من حيث هي اعتقاد مبني على براهين رصينة ترسم خطاً فاصلا بين اليقين والوهم. واعتبرت تيرسلين أن المطلوب اليوم هو استعادة مشروع الميتافيزيقا الكلاسيكية من حيث طموحها إلى المعرفة المتجردة والموضوعية للأشياء بدلا من النظرة الاختزالية للوجود في التأويلات والتعبيرات الخطابية. ما تريده تيرسلين وأصحاب الأنطولوجيات الجديدة هو الخروج من الحقبة الفوكوية التي طبعت الفلسفة المعاصرة.
الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني