في عددها الصادر بتاريخ 19 سبتمبر، خصصت مجلة «دي سايت» الألمانية ملفاً كاملاً لنمط الديمقراطية الاحتجاجية الصاعدة في كبريات الدول الليبرالية الغربية، معتبرةً أنها نتاج مشاعر الغضب والامتعاض، ولا يمكن تفسيرها بمعطيات فكرية أو نظرية صرفة.
ووفق الصحيفة الألمانية، فقد أصبح الغضبُ اليومَ المحركَ الأساسي للالتزام النضالي في البلدان الغنية الغربية، بما يتجاوز نطاق مَن يطلق عليهم «ضحايا العولمة».
وبحسب فيكتور فرانكل المتخصص في اتجاهات الرأي العام، والذي رجعت له الصحيفة، فإن الغضب الاحتجاجي يَصدر عن ظاهرتين هما: الشعور بانعدام القدرة على التحكم في الأوضاع السائدة، وانحسار المعنى في سياق جيوسياسي متوتر تتزايد فيه الأزمات الاقتصادية والمخاطر المناخية.
في الماضي كان الغضب هو القوة الدافعة للجمهور في الثورات المتمردة التي عرفتها أوروبا، وأشهرها الثورة الفرنسية، أما اليوم فقد نجحت أحزاب اليمين الراديكالي في استخدام هذا الشعور الطاغي للحصول على أصوات الناخبين، بينما تلعب الأحزابُ التقليدية بورقةَ التهدئة التي لا يبدو أنها مؤثرة أو فاعلة. قبل سنوات، أصدر الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك كتاباً هاماً حول هذه الظاهرة، بعنوان «الغضب والزمن» (Zorn und Zeit)، بيّن فيه أن التمردَ كان في السابق يؤدي إلى نتائج ملموسة، تَبرز في دور الأحزاب والتنظيمات النقابية والمدنية في استيعابه وتحويله إلى طاقة سياسية. وهكذا اعتبر الكثيرون أن امتعاض المضطهدين يفضي إلى تحطيم قيودهم، في حين لم يعد يوجد اليوم منفذ كوني لمشاعر الغضب والتمرد السائدة في المجتمعات الغربية الحالية. في السابق، كانت الكنيسة والأممية الشيوعية دعامتي ما سمّاه سلوتردايك «بنوك الغضب» في الغرب، أما اليوم فقد أفلست هذه البنوك، ولم يعد للذعر والحنق جهة حاضنة.
ومع أن فلاسفة الحداثة السياسية، مثل سبينوزا وهوبز، ربطوا الحالةَ المدنية بمشاعر الخوف والطاعة، طلباً للأمن والرفاهية، فإن سلوتردايك يبيّن أن المشاعر «الرغائبية»، مثل الاستمتاع والتملك، ليست وحدها التي تحرك الإنسان كما توهمت الليبرالية الرأسمالية، وإنما تحركه أيضاً المشاعرُ «الغضبية» مثل الفخر والغضب والثأر. لقد تركزت المشاعر الرغائبية منذ بداية العصور الحديثة في الاقتصاد الذي هو الطريق إلى لذة الاستهلاك والرفاهية في المجتمعات المعاصرة، وأصبح الفعل السياسي مدفوعاً في الغالب بهذه المحركات والدوافع، ورسمت له أهداف الأمن والازدهار. أما اليوم، فنشهد صعودَ الأهواء الغضبية التي تحولت إلى المظهر الأبرز للسلوك السياسي في الديمقراطيات الليبرالية العتيدة.
ومن الجلي أن هذه الرؤية سليمة، عندما نتابع الحملات الانتخابية الكبرى التي جرت في بلدان ديمقراطية عريقة مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وهولندا.. إذ نلمس في هذه الساحات أن الصراع السياسي لم يتمحور حول الملفات الاقتصادية الكبرى أو المطالب الاجتماعية التقليدية، بل تركز حول ملفات تحيل إلى مشاعر الغضب والحنق مثل الهجرة والهوية والكرامة الفردية.. إلخ.عندما سئلت الزعامات السياسية البريطانية التي دافعت عن قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، رغم آثاره المدمرة على اقتصاد البلاد وأوضاع السكان، أجابت بأن الأولوية يجب أن تكون لسيادة وكرامة المواطن، لا مصالحه المادية.
وفي فرنسا، واجهت التظاهرات الغاضبة الإصلاحات المؤسسية الكبرى التي تقدم بها الرئيس ماكرون، رغم أن جل الخبراء الاقتصاديين والفنيين يعتبرون أنها ضرورية ولها انعكاسات إيجابية على حياة المواطنين.
وفي الولايات المتحدة الأميركية، لم يشفع للرئيس جو بايدن أداؤه الاقتصادي الناجح، ونجح خصمه ترامب من خلال خطابه الشعبوي البسيط في تأليب القاعدة العريضة ضده باسم كبرياء الأمة وعظمتها. وبطبيعة الحال، لا يمكن فصل رجوع المشاعر الغضبية عن حالة الحرب الجديدة في أوروبا (الحرب الأوكرانية)، مما حدا بالفيلسوف الفرنسي فريدريك ورمز إلى القول بأن الغضب هو العقدة المخفية في الشخصية الأوروبية التي تأسست تاريخياً على العقلانية والعلومية ووهم السلام الدائم.
ما لا يدركه الأوروبيون، حسب «ورمز»، هو أنه لا سبيل للتخلص من الغضب الذي يصدر عادة عن الشعور بانعدام العدل، ومن ثم ضرورة معالجة هذا الشعور، بدل تركه للاستغلال الأيديولوجي، كما هو الشأن راهناً مع التيارات الشعبوية الراديكالية.
خلاصة الأمر، أن طبيعة الفعل السياسي في الغرب الليبرالي تغيرت من التدبير العقلاني العلمي للمجتمعات في اتجاه السلم والأمن والرفاهية، إلى التمرد الاجتماعي الذي يتخذ في الغالب سمة انتخابية احتجاجية، وفي البعض الحالات يخرج إلى الشارع دون وجود قوى منظمة تستوعبه وتحتضنه، ومن هنا خطورة المشاعر الغضبية في المستقبل المنظور.