لم يكن مجتمعنا الشنقيطي يعرف الدرهم والدينار المشهوريْن في مشرق العالم الإسلامي ومغربه والذيْن كانا يجري بها التعامل هنا وهناك، وعوضا عنهما كان التعامل في بلادنا بالمقايضة وتبادل السلع، وبات التعامل التجاري في مجتمعنا التقليدي قائما أساسا على الحيوان غنما وبقرا وإبلا، كما يقوم على الملح وعديلته وما يقابلها من سلع، وتعتمد بعض مناطق بلاد شنقيط على مد التمر وبعضها على مد الزرع، وقد يعتمدون على “البيصة” وهي قطعة من القماش طولها غالبا ثلاثون ذراعا أي 15 مترا كوحدة للتبادل والمقايضة، فهي تعوض الدراهم والدنانير الغائبة تماما من أسواقنا القديمة.
كل ذلك قبل أن يتواصل ساكنة هذه البلاد بالأوروبيين ويتعاملوا مع التجار القادمين من وراء البحار في القرن السادس عشر وما بعده. فمنذ تلك التواريخ دخلت بعض العملات الأوروبية مجال المبايعات وصارت جزءا من التعامل التجاري. غير أن حضور تلك العملات لم يُزِح وحدات التبادل التقليدية من حيوان وملح وتمور وحبوب وقماش ولم يَقْضِ عليها، بل تجاورت الوحدات وتعايشت جنبا إلى جنب، فكان التبادل التجاري ببلادنا ذا طابع مزدوج وذا مظهر متعدد، تتناغم فيه وحدات التبادل التقليدية مع الوحدات النقدية الأجنبية الوافدة.
وبين أيدينا وثائق كثيرة ورد فيها ذكر المبادلات وذكر العملات وطرق تداولها وكيف كانت تنظم السوق المحلية. وسأحاول في هذا المقال تناولَ هذا الموضوع البكر وولوجَ تياره المتلاطم والغوصَ في أعماقه، وربما يجيء من بعدي من هم أكثر تخصصا وأوفر معلوماتٍ وأدقُّ نظرا فيقوِّمون ما اعوجَّ ويُكملون ما نقَص ويُعمقون ما تسطَعَّ.
الحيوان والتبادل التجاري في المجتمع الموريتاني
من الطبيعي، في مجتمع رعوي كمجتمعنا الصحراوي، أن يكون الحيوان الوحدةَ الأساسيةَ في التعامل والتبادل، وأن تكون الأنعامُ وأنواعُها مدارَ تقييم السلع، فيقولون عند التسعير هذا برأس من الغنم، أو برأس من الإبل. وداخل كل جنس من أجناس الحيوان توجد أنواع تتحدد طبيعة سعرها بسن ذلك النوع من الأنعام.
فبالنسبة لرؤوس الغنم يقال لأولها (الوحدة الصغرى) “مُغَيْدْنَه” وهي صغيرة الغنم من خروفة أو جدية عندما تقارب الفطام، وتليها “المفطومة”، ثم “الملساء” ثم “الجدعة” أي الجذعة وهي التي بلغت السنة، ثم “الثنية” عندما تخرج لها ثنيتان، ثم “الرباعية” وهي التي خرجت لها أربع أسنان وهكذا، ثم “شاة الديَّه” وتطلق على الذكر والأنثى من متوسط الغنم والذي يدفع في الجنايات من أرش ودية وتعويض، وأكبر منها “ݣاطعَه” ومعناها أنها تقطع جذعتين، أي تفي بثمنهما.
وصارت عبارة “شاة الديَّه” تستعمل في الحسانية كناية عن الشخص لا له ولا عليه، أي محدود التأثير في الشأن العام.
وبخصوص البقر فهو يشترك مع الإبل في العديد من الاصطلاحات المتعلقة بأسنانها وأعمارها، وتلك الأسنان والأعمار هي التي تحدد قيمة كل نوع، وبها تدخل في دورة التعامل السوقي والتبادل التجاري. فالمخلول تطلق على العجل أو الفصيل قارب السنة، وابْنْ ألبون أو بنتْ ألبون، وهو العجل/العجلة الذي/التي ولدت أمه، فهو مفطوم ويسمى أيضا “آفوك” ومؤنثه “تافكيت” وهو التبيع أو التبيعة. ثم “الحݣ” ومؤنثه “الحݣَّه”، ثم “اجّْدع” ومؤنثه “اجَّدعَه” أي الذي/التي جاوز(ت) السنتين ولم يبلغ/تبلغ الثلاث سنوات. وتطلق “توس أم بِكْرْ” على البقرة أول نتاجها، وبعد ذلك تكون سنها بحسب النتاج فيقال: “أم ثاني”، “أم ثالث”… إلخ. وإذا شاخت البقرة يقال لها “ݣارح”، ثم “عَوْدَه”.
وبخصوص أسنان الإبل فهي مفصلة في اللغة الحسانية، مع اختلافات بسيطة من منطقة إلى أخرى: فصغير الإبل يسمى “احْوارْ” وبعد سنة يسمى “بن اعْشارْ” وبعده بقليل يسمى “أگعسْ” وإذا بلغ الفطام بعد سنة ونصف سمى “بلْبونْ” ومؤنثه “بنت ألبون” ويرادفه “مخلول” في منطقة الگبلة. ومن سنتين إلى ثلاث يسمي “آمسخْسرْ”، وإذا بلغ ثلاث سنوات سمي “حِگْ” وأربع سنوات “حگْ امْراحْ”، ومن أربع إلى خمس “اجْدعْ” وعند خمس سنوات يسمى “أداريفْ” وعند ست “اثْنِي” وبعد سبع “ارْباعْ” ثم “اسْداسْ” عند ثمان، وعند تسع سنوات “فاطر” وإذا بلغ عشر سنوات وتحككتْ أسنانه وتساوت مع مستوى اللثة وكبر سمي “ماسْحْ اشركْ”، وإذا بلغ ثلاث عشرة سنة سمي “سالخْ النابْ”، وما زاد على الثلاث عشرة فهو “گارحْ اجْمالْ” أو “عوْدْ”. ويطلق لفط “ابْعيرْ” على الجمل إذا كان بين “بن اعشارْ” و”اجدعْ”، ويطلق لفظ “الحاشي” على الجمل إذا كان بين “المخلول” و”الحگ”. ويطلق “آوصراط” على الجمل إذا كان بين “اجدعْ” و”اثني”.
أما أسنان الحمير فتبدأ بـ”غَذْوِي” ثم “اغجل” ثم “أملس” ثم “اجدع احمير”، ثم “إفِسّْ” وهو الحمار بين السنتين والثلاث سنين، ويليه “آفگراش احمير”، ثم عوْدْ.
وكان للشناقطة تقييم يشمل جميع الأنعام، فالحيوان عندهم نظام نقدي قائم بذاته، يقوم بتحديد الأسعار وتوجيه السوق وهو عنصر محوري في التبادل التجاري وتسعير البضائع وتوزيع المواريث وتقسيم الديات وقضاء النذور ودفع الصداق لا فرق بينه وبين العملات النقدية اليوم.
ومع الحضور البارز للحيوانات في النظام التجاري التقليدي في بلاد شنقيط فإن ذلك لم يمنع من حضور التمور في الواحات وكونها وحدة للتبادل التجاري المركزية، وكذلك الحبوب في المناطق الجنوبية ذات الخصوبة الزراعية، والعديلة في السباخ وفي مقالع الملح في الغرب والشمال، وقد وقفنا على جانب من ذلك في المقال الخاص بالمكاييل والأوزان.
وعلى سبيل المثال يقولون: كم ثمن البيصة من الغنم، فيقولون: ثلاث جدعات. أي جذعات، أو أربع أو نحو ذلك. ومن البقر: التافكيت، بمعنى التبيعة كما مر بنا. أما إذا كانت القيمة بين البقر أو الغنم، فيقولون: ثمن هذا الجمل، أربع تيفكاتن مثلا، وتافكيت من البقر ثمنها ست جذعات من الغنم، أي أن الجمل يساوي أربعا وعشرين جذعة من الغنم. وإذا قالوا شاة دية، فمعناها أنها تساوى جذعة ونصفا، وإذا قالوا: ݣاطعه، فمعناها: أنها تقطع جذعتين، أي تفي بثمنهما كما قلنا.
العديلة والبيصة وحدتان للتبادل
وإلى جانب الحيوان والزرع كان قماش النيلة الأسود أو ما يعرف بالبيصة عملة من نوع خاص. فـ”البيصة” هي وحدة القماش التي تقوَّمُ بها البضائعُ، ويتم بواسطتها تسعير الحيوان، وبها تدفع الديات وتؤدى الغرامات كذلك. وشاع عند الموريتانيين قماش “النيلة” حتى صار من أبرز وأهَمِّ أنواع الأقمشة بالبلاد قديما، وكان أول من أدخله موريتانيا الشركة الفرنسية المعروفة باسم “شركة الهند” وذلك في سنة 1742م. وتسميات القماش الموريتاني القديم وأصنافه كثيرة فمنها: “فلتور” و”شنظورة” و”صفانة” و”المِلْفِي” و”كتِكانْ” و”دُماسْ” و”الروم” و”الشعلة”.
و”البيصة” لفظ من أصل فرنسي وهو (Pièce) و”فلتورْ” من أصل فرنسي كذلك وهو: (Filature)، وهو قماش غليظ ليس بالجيد، والأجود يعرف باسم “الميلس” تصغير الأملس، بالتصغير الحساني، وهو جنس جيد، يتفاوت بحسب أنواعه. ومن أجود الميلس “شنظورة” وهو قماش متقن الصنع أسود اللون وهو أجود أنواع “النيلة” ولعله مأخوذ من اللفظ (Chandouraa) وهو اسم مدينة في غينيا الفرنسية بالمحيط الهادي اشتهرت بصنع هذا القماش. أما “كتِكانْ” فمن الميلس أيضا واللفظ الفرنسي (Cotonnade) وهو ذو لون أسود جيد. و”الشعلة” قماش أزرق غامق ويعرف بالمشرق العربي بالكحلي (بضم الكاف). و”المرفݣ” نوع من “فلتورْ” غير جيد.
أما عديلة الملح فكانت كالبيصة عنصرا أساسيا في التعامل عند الموريتانيين في القديم، والعديلة: قطعة من الملح يكون طولها غالبا مترا واحدا وعرضها 20 سنتمترا وسمكها 40 سنتمترا وتزن ما بين 40 إلى 45 كيلوغراما. وتسمى قافلة الملح “أزلاي” (تنطق الزاي في أزلاي بمخرج بين الصاد والزاي) وهي قافلة الجمال المتجهة نحو معدن الملح. وأكبار أو الگارب يطلقان أيضا على القافلة الكبيرة التي تضم مئات الجمال الموقرة بقصد التجارة.
وأغلب السباخ ومقالع الملح توجد في الشمال والغرب سواء تعلق الأمر بسبخة الجل بتيرس أو بسبخة انتررت في غرب الترارزة أو غيرها. ويقال في المثل “رأس العديلة ما إسوحلْ” أي أن قافلة الملح لا تتجه غربا لأن أغلب معادن الملح في غرب موريتانيا ولا معنى لإرسالها إلى هنالك. ويضرب للسذاجة التجارية وهو قريب من المثل الحساني: “ارفود الحجارْ للكدى” أي نقل الحجارة إلى الجبال. وفي المثل العربي: مستبضع التمر إلى هجر أو مستبضع التمر إلى خيبر، أو كمن يبيع الماء في حارة السقائين.
العملات الأوروبية القديمة بموريتانيا.. قصة الأسماء المتغيرة
قبل سيطرة المستعمر الفرنسي على موريتانيا، وخلال تلك السيطرة كذلك، ظلت بعض العملات الأوروبية متداولة في بلادنا، بل إن اللهجة الحسانية احتفظت ببعض التسميات التي تحيل على عملات إسبانية وبرتغالية وفرنسية وإنجليزية كانت معروفة بموريتانيا وكان التعامل بها مألوفا.
ومن القطع النقدية الشهيرة “السُّفايَه” من اللفظ الفرنسي (sou) أي الفلس. وكانت قيمتها محدودة جدا لذلك عبروا عن الفقر الشديد أيضا بقولهم: “ما عندو سُفَايه”.
من بين تلك العملات أو القطع المعدنية التي كانت متداولة: “الكوبرايه” وهي مأخوذة من اللفظ الإنجليزي (copper) وهو النحاس، فقد كانت هذه القطعة من ذلك المعدن فسميت باسمه.
والأوقية تساوي خمسة فرنكات، هي اللفظ العربي الوحيد من بين جميع الاصطلاحات النقدية المتداولة في موريتانيا؛ فجميع تلك الاصطلاحات أوروبية لذلك اختير هذا اللفظ العربي الأصيل علما على عملتنا الوطنية. وكل أوقية في القديم تساوي خمسين كوبرايه وتساوي مائة سفايه (كل كوبرايه عبارة عن سُفايتين). وكانت عندهم أوقية هنݣلي أي أوقية إنجلترا، ورد ذكرها مرارا في الوثائق التي بين يدي.
وهنالك قطعة إسبانية تسمى “بِكْنِي”، وهي من معدن الألمنيوم أو “الريش”. و”البكْنِي” مثقوب من الداخل لذلك يقولون للفقير المدقع الذي لا يملك قوت يومه في الحسانية: “ما عندو بكني مهرود”؛ مما يدل على أن هذه القطعة المعدنية الإسبانية كانت محدودة القيمة في مقابل العملات الأخرى. و”البِكْنِي” من اللفظ الإسباني (pequeno) وتعني القطعة النقدية الصغيرة.
ومن تلك العملات المستعملة في موريتانيا “الفِفْتِنْ” وهو قطة معدنية إنجليزية من اللفظ الإنجليزي (fifteen) ومعناه خمسة عشر، حيث كان الفرنك الفرنسي الواحد يعادل خمسة عشر بنسا (البنس تقسيم مئوي للجنيه الاسترليني) لذلك سميت القطعة “ففتِنَا”.
ومن الشخصيات الموريتانية المنسوبة للشرف سيدٌ يُدعى عبد القادر، وكان صديقا للشاعر الفذ محمد ولد أبنو ولد احميدن الشقراوي، فاشتكى إليه كون الناس زهدت في إعطائه هديته وهي “ففتِنْ” حتى إن بعض الناس يضيفه إليه فيقول: “عبد القادر الففتن”. ويريد عبد القادر من ولد أبنو ولد احميدنْ، وهو الشاعر ذو الصيت الطائر، الذي تلقفت الناس أدبه، وتناقلته المجالس، وسارت به الركبان، أن يقول فيه شعرا يجعل الناس تواسيه، فقال فيه ولد أبنو رحمه الله:
عبد القـادرْ ذَ وَكتْنُو ۞ ضَعيفْ امنَيْنْ إجيكمْ
لا يَحصرْ فيكمْ ففِتْنُو ۞ ءُ هوَ لاَ يحصَرْ فيكمْ
تمُّو لَجَاكمْ ذَ اشريفْ ۞ الظريفْ اللي باطْ كيفْ
الشرْفَ دايرْ شِي اخفِيفْ ۞ وانتومَ لايقْ بيكمْ
بايْديكمْ عسُّو من اكريفْ ۞ أيْديكمْ بالفيْديكـمْ
ويطلقون على ضعف الففتن: “دوبل” ويساوي فرنكين ويعني الضعف بالفرنسية، وعلى فرنك وربع الفرنك: “ترانصو”، كما يطلقون هذا اللفظ على قالب السكر فكان يباع بمبلغ “ترانصو” فسموه بسعره أو العكس.
ويطلقون على نصف الففتن: “طنك” أو “ابْطَنْكْ”، ولم أعرف أصل اللفظ مع أنه يمكننا أن نقرأ في رحلة الفرنسي غودفروا لوايي (GODEFROY LOYER) الذي تردد على الشاطئ الأطلسي الموريتاني من سنة 1687 إلى سنة 1702، في عهدي الأميرين التروزيين: السيد وأخيه أعمر آ گجيل ابني هدي بن أحمد بن دمان، ويذكر أنه أعطى لابن أحد الأمراء 5 طكو (cinq tacous) فهل “طنك” تحريف وتصحيف للفظ “طكو” المذكور في هذه الرحلة؟
وبُعَيدَ نهايةِ الحرب العالمية الأولى، أصدرت فرنسا عملةً ورقية جديدة عممتها على جميع مستعمراتِها بإفريقيا الغربية بما فيها موريتانيا، لتحل العملة الورقية الجديدة محلَّ الفرنك الفرنسي الذي كان قِطعًا معدنيةً من الفضة الخالصة. كان الموريتانيون يسمون الفرنك الفضي “المزرنف” ويصهرونه أحيانا للاستعمال حَلْيًا.
وعندما شاعت العملة الورقية بموريتانيا بدايات عشرينات القرن الماضي سموها “الكيْتْ”، وأرخو بظهورها في بعض المناطق فقالوا: عام الكيت. والكيت لفظ ولفي ومعناه الورق النقدي. والصواب أن يقال “أعوام الكيت” لأنه لم يكن عاما واحدا، ذلك أن الفرنسيين أصدروا وعمَّموا العملةَ الورقيةَ الجديدةَ في مستعمراتهم ولم يسحبوا الفرنكَ الفرنسيَّ الفضيَّ القديمَ دفعة واحدة، بل ظل التعاملُ بالعملتين جنبا إلى جنب إلى بداية سنة 1924 حين تم النضوبُ التدريجي والنهائي للفرنك الفرنسي الفضي، وصار الفرنك الغرب إفريقي الورقي العملة الوحيدة السائدة بالفضاء الغرب إفريقي “الفرنسي”. وقد كتب على أحد وجهي الورقة النقدية للفرنك الغرب إفريقي باللغة العربية ما يحدد قيمة الورقة، ونفسُ الشيء بالولفية مكتوبا بالخط العربي؛ والكتابة العربية الموجودة على الفرنك الإفريقي هي خط القاضي عينينا ولد أبنو المقداد، من أبناء الأسرة المشهورة بسان لويس. وهذا يوضح جانبا من هيمنةَ اللغة العربية على منطقة غربِ إفريقيا بداية القرن العشرين وما قبل ذلك، وهي هيمنة لم يستطع الاستعمار الفرنسي استئصالها ولا الحد منها.
وكان يطلقون على خمسة فرنكان غرب إفريقية أوقية، وقد احتفظت الدولة الموريتانية الحديثة بلفظ الأوقية وجعلتها اسما لعملتها القومية هي في الأصل من مصطلحات الأوزان، فهي تعني كيلوغراما ومائة غرام. وقد خصص الاستعمال التجاري مصطلح الأوقية لوزن الفضة والذهب دون سواهما؛ لذلك سهل انتقال المصطلح عند الموريتانيين من الحقل الدلالي للأوزان إلى حقل العملات؛ وهو أمر مستساغ فالموريتانيون يسمون العملة عموما “الفظَّة” وهي تصحيف للفضة.
ويقولون في الحسانية للنقود “طرنيشَه”، وإذا كانت كثيرة قالوا: “طرنيشه اغليظَه”، ويقولون “اطريْنيشه” لمبلغ زهيد. والطرنيش من معانيها الجواهر والسلاسل الفاخرة تضعها المرأة في رقبتها وحجمها يكون كبيرا كما في الأمازيغية الشاوية بشرق الجزائر. فلعل اللفظ الحساني أخِذ من هذا المعنى. وتكثر في الأعلام الليبية تسمية الطرنيش.
ويلقب أحمد سالم ولد صمبَ السباعي من أولاد احميدَه بالطرنيش (توفي 1964) وكان زعيما شجاعا بطلا سمحا كريما مدحه الشعراء وأجادوا. وقد قاد “الغزي الأحمر” كما وردت تسميته وقصته الملحمية التي ساقها الصحفي الفرنسي جاك زمرمان (Jacques Zimmermann) راويا عن الطرنيش نفسه. وقد شرح أحمد سالم نفسه معنى الطرنيش في ذلك السرد الأخاذ قائلا إنها تعني في لهجة جنوب المغرب “الصقر الجارح الكاسر الذي ينقض على فريسته”، فهذا معنى آخر للفظ الطرنيش. وقد نشرت جريدة “ماريان” الفرنسية ملحمة الغزي الأحمر كاملة والتي توحي بإقدام وزعامة أحمد سالم ولد صمب وقد رواها عنه الصحفي الفرنسي بالنقل المباشر والسرد الممتع في عددين متتاليين من تلك الجريدة أولهما رقم 121 والصادر بتاريخ 13 فبراير 1935، والثاني رقم 122 والصادر بتاريخ 20 من نفس الشهر.
عملات مندثرة
ومن العملات المنقرضة في هذه البلاد الوَدَعُ الذي كان شكلًا شائعًا من أشكال العملات المستخدمة في العمليات التجارية. والودع قواقع صدفية بحرية تتشكل فيها حلزونات البحر المعروفة باسم Monetaria Moneta. ويُعتقد أن التجار العرب في القديم أدخلوا فكرة استخدامها كعملة لسكان أفريقيا الغربية، كما استجلب البرتغاليون نوعا جيدا من الودع إلى غرب أفريقيا من المُحيط الهندي في القرن 16م، وظل الودع مستعملا في غرب إفريقيا حتى النّصف الأول من القرن 19م، ومنذ ذلك التاريخ نضب وتلاشت أهميته النقدية وخرج من الدورة التبادلية نهائيا. وقد استخدمت الدول الآسيوية القريبة من المحيط الهادئ والمحيط الهندي هذه الصدفة الخزفية الصغيرة كعملة يتم بها التبادل والتسعير. وفضلا عن دور الودع التجاري فإنه كان حلية للنساء يجزَّع به العقد والقلائد مع الخرز، ويوضع في الرقاب والمعاصم ويُشد في الضفائر.
وقد ارتبط الودع بممارساتٍ رمزية وجعلت له المعتقدات الشعبية خصائص تتعلق بقراءة الطالع ومعرفة الحظ. فتضربه القارئة ضربا خاصا وتحركه عشوائيا وتفسر تموقعات حباته وأوضاعها من تراكب وتناظر وتفرق وتجمع رابطة ذلك بالحظ والمستقبل والطالع. ومع أن الودع قد فقد طبيعته النقدية ودوره في التبادل التجاري إلا أنه ظل محتفظا برمزية خاصة، ليس تبادلية بل تنجيمية من جلب للخير ودفع للشر واستكشاف المستقبل فضلا عن وظيفته في الزينة والحلي، وأحيانا لاستعمالات تجميلية، حيث يُدق دقا وتعالج ببدرته البقع الداكنة والكلف والنمش وحب الشباب على الوجه.
خاتمة
يشكل نظامنا النقدي القديم ظاهرةً هامة في تاريخنا الذي لم يكن أحداثا فقط بل هو أيضا تلك الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتشابك فيما بينها لنتسج أنماطَ حياة الناس وطرقَ تدبيرهم وأنماط عيشهم. وتختزن اللغة في الغالب اصطلاحاتِ تلك الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية ويعبر عنها الأدب أحسن تعبير. ومن المفيد أن يدرس باحثونا تلك الظواهر الاقتصادية التي عرفها مجتمعنا الموريتاني والتي كانت جزءا من صميم حياة الناس كما ظلت تلامس جوانب من أحوال المعاش وأنماط التعامل.
د. سيد أحمد ولد الأمير / باحث موريتاني