قبل ستين سنة (مارس 1964) توفي الكاتب والأديب المصري المشهور عباس محمود العقاد الذي طبع الحياة الثقافية المصرية والعربية لمدة أكثر من أربعة عقود كاملة. كان العقاد نموذجاً متميزاً لنمط من المفكرين الموسوعيين الذين عرفتهم الحياة الثقافية أوانها، فجمع بين الكتابة الأدبية شعراً ونثراً وسرداً، والتأمل الفلسفي، والمعالجة السياسية والاجتماعية، والنشاط الإعلامي.
قرأنا للعقاد عبقرياته التي كانت آنذاك نوعاً من الكتابة النفسانية والتاريخية غير المألوفة في الفكر العربي، كما قرأنا إسلامياته التي نحى فيها منحىً مختلفاً عن صديقه اللدود طه حسين الذي غلبت على أعماله الدينية الروحُ الأدبيةُ، كما اختلف فيها عن الكتابات المأدلجة لدعاة الإسلام السياسي الذين كان خصماً لهم من منظور إيماني عقلاني. ومع أن العقاد كتب عن أهم فلاسفة الإسلام، مثل ابن سينا والغزالي وابن رشد، إلا أن دراساته في الموضوع لم تكن في مستوى أعماله الأدبية الرصينة، ولذا قسى عليه عبد الرحمن بدوي في مذكراته واعتبر كتاباتِه الفلسفيةَ سطحيةً وهامشية.
ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أن العقاد هو أحد الأعلام الأربعة الذين أسسوا التقليد الفكري العربي المعاصر، وهم بالإضافة إليه، طه حسين وأحمد أمين وزكي نجيب محمود. كان الأربعة من رواد فكر التنوير والحداثة، وإن اختلفت اهتماماتهم ومناهجهم وطرق تفكيرهم. سلك طه حسين طريق النقد الثقافي من منظور ليبرالي عقلاني عبّر عنه بمقولة الشك الديكارتي، وأرسى طُرقَ الكتابة المنهجية الجديدة في تاريخ الأدب والأفكار، واتسمت أعمالُه بالجرأة والصدامية.
أما أحمد أمين فيحسب له أنه أول صاحب مشروع لكتابة تاريخ شامل للأفكار والمذاهب والرؤى في تاريخ الثقافة الإسلامية الوسيطة، من منظور حديث. ومع أن اطلاعه على الكتابات الاستشراقية والمقاربات الفلسفية والتأويلية المعاصرة كان محدوداً، إلا أنه نجح في تقديم قراءة جديدة ومركبة للتراث العربي الإسلامي الكلاسيكي في جوانبه الفلسفية والكلامية والأدبية، ما تزال مادةً ثريةً صالحةً للمتابعة والمطالعة. أما زكي نجيب محمود فقد كان سباقاً إلى نشر الفكر العلمي الجديد من خلال اطلاعه الوثيق على الفلسفة الوضعية الإنجليزية.
ولم يكن عرض أفكار الوضعيين المناطقة منفصلا عن موقف نظري ملتزم أساسه التبشير بقيم العقلانية التجريبية والموضوعية الإجرائية والحقيقة العملية، وإن كان محمود انتهى في أعماله الأخيرة إلى نزعة تصالحية ما بين العلم والروحانية الإيمانية.
لم يذهب العقاد إلى طريق طه حسين الذي كان شديد التشبع بالفكر الحداثي الفرنسي إلى حد اعتبار أن المدخل الأوحد للحضارة المعاصرة هو التغرب الواعي والتنصل من الموروث الشرقي. كما لم يتبع زكي نجيب محمود في نزعته الوضعية البرغماتية التي نظر إليها بعين الأديب المبدع بصفتها اختزالية للفكر والثقافة، قاصرة عن بلوغ الرقي الإنساني الحقيقي. وربما كان أحمد أمين أقرب الثلاثة إلى فكره، وقد نوه بكتبه في التاريخ الثقافي للإسلام التي اعتبر أنه ينطلق فيها من منهجية «محافظة تجديدية».
ليس من همنا تقويم مسار المفكرين الأربعة الذين تجاوزهم البحث العلمي، رغم غزارة إنتاجهم وعمق ثقافتهم، بل ما يهمنا هنا هو التنبيه إلى أن العقاد ومعاصريه المذكورين شكلوا نموذجاً من المثقفين الموسوعيين قريبين من مفكري التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر الميلادي.
ومن خصائص هذا النموذج الثقافةُ الموسوعية الواسعة، التي نلمسها بقوة لدى العقاد الذي ناهزت أعماله المائة عنوان، وقد تناول فيها مختلف المعارف والحقول الثقافية القديمة والحديثة، وتلك هي الميزة التي يشترك فيها مع طه حسين. كما نلمس لدى العقاد خصلةً أخرى من خصال مفكري التنوير الأوروبي، وهي الجمع بين التأمل الفلسفي وجمالية الأسلوب الأدبي، حتى في كتبه الأكثر تعقيداً مثل «التفكير فريضة إسلامية» و«عقائد المفكرين».
وكما أن مفكري التنوير الأوروبي تبنَّوا نزعةً دينية عقلانية ترفض التعصب والتحجر وتتبنى التسامح والحرية، ذهب العقاد في الاتجاه نفسه، وفياً لمشروع الإمام محمد عبده الذي وصفه بـ«عبقري الإصلاح والتعليم». كانت الصحافة الثقافية هي القناة المفضلة لرواد التنوير الأوروبي من أجل نشر أفكارهم وآرائهم، وقد سلك العقاد الطريقَ ذاتَه، فكانت كتاباته في مجلات «الرسالة» و«المقتطف» و«المؤيد» حاملةً لأفكار التجديد والتحديث التي غيرت جذرياً وجهَ الثقافة العربية المعاصرة. بعد ستين سنة اختفى المثقف التنويري في الساحة الفكرية العربية، وكان العقاد من الوجوه الأولى التي قامت عليها ديناميكية التنوير العربي المتعثر.