ظهرت كتابات عربية كثيرة تتحدث عن النهضة اليابانية من حيث كونها نموذج يحتذى للمجتمعات العربية، لتوفيقها الناجح بين الحداثة في جوانبها التقنية والاقتصادية والمؤسسية والهوية الحضارية للمجتمع الياباني.
نذكر من بين هذه الكتابات أعمال مالك بن نبي وأنور عبد الملك وشارل عيساوي، ومسعود ضاهر الذي كتب مؤلفات عديدة حول التجربة اليابانية وسبل الاستفادة منها عربيا، والمؤرخ المغربي محمد أعفيف الذي تميز بكتابه عن أصول التحديث المبكر في اليابان.
عكست الكتابات العربية الجدل المنهجي المعروف في الدراسات الاجتماعية والتاريخية اليابانية والغربية بين اتجاهين متمايزين: يركز أحدهما على المعايير الأداتية في النظر للحداثة اليابانية كتطبيق ناجح للسيناريو الغربي، ويذهب ثانيهما إلى المقاربة الثقافية باستكشاف خصوصية التجربة الإيجابية من حيث المقاييس والمميزات الحضارية.
ركز أصحاب الرؤية الأولى على ما عرف بإصلاحات المايجي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التي اعتمدت نفس مسالك التحديث الأوربي من ثورة صناعية واقتصادية ومؤسسات ليبرالية ونظام اجتماعي قائم على التنافسية والحرية وربط البلاد بمركز الهيمنة الغربي.
لقد كان شعار المايجي هو ” الخروج من آسيا ” ،بما تمثل في الحروب التي انتصرت فيها اليابان على الصين وكوريا وروسيا ،ضمن عملية اندماج نشط في النظام القطبي الغربي دفعت ثمنها القومية اليابانية التوسعية.
كتب الكثير في هذا المنظور عن ” الحداثة اليابانية غير المكتملة أو العرجاء ” حسب عبارة الكاتب الياباني ناستوم سوسكي( المتوفي ١٩١٦) ، وهي مقولة تعني تعثر التجربة اليابانية في الوصول إلى النموذج الحداثي الأوربي في محطة اكتماله. فمع أن اليابان نجحت في التحديث الاقتصادي والتقني وفي البناء المؤسسي للدولة ، إلا أنها عجزت من هذا المنطلق عن استيعاب القيم الفردية الإنسانية ولم تصل إلى مستوى ” نزع القداسة عن العالم ”
أما المقاربة الثقافية فتوجه الاهتمام إلى الخصوصيات الحضارية للمجتمع الياباني الذي نجح في بناء تجربة حداثية غير غربية ، تجمع بين ” الروح اليابانية والتكنولوجيا الغربية ”
فما يعتبر تعثرا وكبوة هو في الحقيقة منعرجا خصوصيا متفردا ، ومن هنا ضرورة إعادة النظر في إصلاحات المايجي التي أطلق عليها البعض عبارة ” الحداثة المحافظة ” لكونها قامت على بعث النظام الإمبراطوري المقدس وتكريس الشنتوية ديانة مدنية للدولة ،وكرست القيم العائلية التضامنية في مختلف مسارات البناء الاجتماعي والعلاقات الإنتاجية.
لم يكن التيار التنويري الياباني (bunmei kaika) علمانيا في قطيعة مع الدين والتقاليد على الطريقة الأوربية، بل اعتمد نهجا متصالحا مع التراث الروحي والحضاري الياباني وحضور مفهوم الأنوار في الإصلاح السياسي والتحديث المؤسسي .
ومن هنا ضرورة مراجعة الأطروحة التقليدية حول القطيعة بين إصلاحات المايجي وحقبة ” التوكوغوا ” ( من نهاية القرن السادس عشر إلى ستينيات القرن التاسع عشر ) التي كانت تعتبر فترة عزلة طوعية وانقطاع قصدي عن العالم ( sakoku). لقد بين محمد أعفيف في كتابه الهام ” أصول التحديث في اليابان ” أن هذه الفترة شهدت وضع الأسس والمرجعيات المكينة والمستقرة للنهضة اليابانية من أمن سياسي واجتماعي وبناء مركزي للدولة وسياسات ثقافية وتعليمية ناجعة وتطوير اقتصادي فعال .ولذا لا سبيل للفصل بين هذه الفترة التأسيسية وإصلاحات المايجي اللاحقة .
في السنوات الأخيرة طغت المقاربة الثقافية في الدراسات اليابانية، بالاتكاء على مدرسة كويوتو الفلسفية التي ارتبطت بالفيلسوف البارز ” كيتارو نشيدا ” ( المتوفى ١٩٤٥) . من أهم أطروحات هذه المدرسة التنبيه إلى النظرة الأنطولوجية اليابانية المختلفة عن الرؤية الغربية في تصورها للوجود والحركة والسيرورة الزمنية ( النظرة الروحية المحايثة والملتصقة بالواقع المباشر والحي وبالطبيعة ..) .
اذا كان أنور عبد الملك قد بشر بحداثة شرقية صالحة للعالم العربي في تبنيه للنموذج الياباني، فإن الاتجاه الغالب على الدراسات اليابانية في العالم العربي ( من أهمها دراسات مسعود ضاهر ) اعتبر أن سبب نجاح التجربة اليابانية وفشل تجارب النهوض العربي يكمن أساسا في إضطلاع الدولة المركزية القوية بمسار الإصلاح والتحديث الاجتماعي والمؤسسي والتفاعل الإيجابي مع العالم في حين اتسم البناء السياسي العربي بالهشاشة والضعف والتفكك والتصادم مع القوى الدولية لأسباب موضوعية .
إنما نريد أن نخلص اليه هو التنبيه إلى ثلاث خلاصات كبرى في مقارنة النهضة اليابانية بمشروع النهوض العربي:
اولا : إن النهضة اليابانية تندرج في سردية طويلة بدأت منذ القرن السادس عشر، أي أنها تزامنت مع النهضة الأوربية والحداثة الغربية المبكرة ،ومن هنا استفادت من عملية التراكم التاريخي الايجابي التي لم تتوفر للمجتمعات العربية.
ثانيا: إن النهضة اليابانية استندت إلى فكر تنويري وإصلاحي متجذر في التقاليد الحضارية والمجتمعية المحلية، دون الوعي الصدامي مع المفاهيم والقيم الغربية الحديثة التي أعيد تمثلها وانتاجها في النسق الثقافي بسلاسة وانسجام.
ثالثا: إن عملية التحديث والإصلاح التي تمت في اليابان جرت بالتفاعل والتناغم مع القوى الدولية المؤثرة . وباستثناء حالة الحرب المحدودة مع الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية التي تلتها الرعاية الأمريكية لمشروع إعادة بناء اليابان المعاصرة، نجحت اليابان في أن تكون قوة مؤثرة وفاعلة في النظام الدولي.
إن هذه المحددات هي التي تفسر تفرد ونجاح التجربة النهضوية اليابانية في مقابل قصور وإخفاق مشاريع النهوض العربي.