نظم في عَمّان بالأردن الأسبوع الماضي «الحوار الاستراتيجي العربي- الياباني» بالتعاون بين مركز الدراسات الاستراتيجية الذي يشرف عليه المفكر الأردني زيد عيادات ومركز بحوث العلوم المتقدمة بجامعة طوكيو. ومع أن جلسات المؤتمر خُصصت بالأساس لاستعراض موضوعات الساحة مثل القضايا الأمنية والجيوسياسية المشتركة وتحديات التطرف والإرهاب وفرص التعاون الاقتصادي والتقني، بالإضافة إلى حرب غزة الدائرة حالياً، إلا أن الإطار الناظم للحوار ظل كما هو متوقع الدرس الذي يتعين على العالم العربي استخلاصه من تجربة النهوض والتحديث اليابانية. ليس الموضوع بالجديد، وقد كتبت حوله دراسات وأعمال عديدة نذكر في مقدمتها كتابات مسعود ضاهر ومحمد أعفيف، بيد أن جل هذه الأعمال تمحورت حول جدلية التحديث التغريبي والنهوض الذاتي في اليابان التي تم تجاوزها إلى حد بعيد في الأدبيات الاجتماعية والتاريخية الراهنة. ليس من همنا استعراض الكتابات الأخيرة في الموضوع، لكن حسبنا الإشارة إلى أن النموذج الياباني المطروح للاستكناه عربياً هو ما أطلقنا عليه «الحداثة المحافظة».
ما نعنيه بالحداثة المحافظة هو استيعاب شروط التقدم العلمي والتقني وآليات التنظيم السياسي المعاصرة في سياق الاستمرارية الحضارية والمجتمعية المحلية. كتب الكثير حول خصوصية النموذج الياباني الجامع بين الأصالة الثقافية المحلية والتحديث الناجع، بيد أن هذا التوجه تم دوماً في إطار السؤال الملغوم حول الأصالة والمعاصرة، الذي كثيراً ما شغل رواد النهضة العربية. لم يكن هذا هو السؤال المنطلق في التجربة اليابانية الحديثة، التي تمحورت منذ القرن الثامن عشر حول شروط الفاعلية التاريخية في المحيط الآسيوي في سياق العلاقة المتوترة بالغرب التي وصلت مداها في الحرب مع روسيا 1905 وما تلاها من مشاركة يابانية في الحربين العالميتين.
في هذا الباب نذكر أن شعار ثورة الميجي (ومعنى هذه العبارة الحكومة المتنورة)، هو «الجمع بين الروح اليابانية والتقنية الغربية». ومع أن بعض دعاة التنوير الياباني طرحوا منذ نهاية القرن التاسع عشر خيار «الخروج من آسيا» (فوكوزاوا يوكيشي)، إلا أن هذا الخروج كان يعني في الحقيقة القطيعة مع العطالة التاريخية والانعزال الطوعي عن العالم الذي طبع حقبة الأيدو (1600 – 1868). ما نريد أن نبينه هو أن حركة الميجي التي نجحت في تحديث اليابان لم تسع إلى مسح الطاولة وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة غير مسبوقة، على شكل الثورات السياسية والاجتماعية الكبرى في الغرب، بل اعتمدت الخيار المحافظ الذي تمثل في مرتكزات ثلاث هي: إعادة النظام الإمبراطوري باعتباره ضمانة الاستقرار الداخلي ومظهر الرمزية الحضارية للمجتمع، وتحويل عقيدة الشانتو إلى ديانة مدنية للدولة، والحفاظ على السلطة العائلية في الديناميكية الاقتصادية والإدارية وشكل التنظيم السياسي.
ومع ان اليابان اعتمدت منذ دستور 1889 نموذج الملكية الدستورية ببرلمان منتخب وصحافة حرة وقضاء مستقل، إلا أنها استوعبت هذه المقاييس ضمن بنيتها الثقافية الخصوصية المميزة دون الانسياق إلى سمات الفردية والميكانيكية الإجرائية والقوننة الصورية التي تطبع الليبرالية الغربية. ومن هنا ندرك أن تاريخ الديمقراطية اليابانية سيطر عليه تقريباً في كل مراحله حزب واحد هو الحزب المحافظ (الحزب الليبرالي الديمقراطي) الذي يقدم نفسه بأنه حارس للتقاليد اليابانية وان كان يتبنى الليبرالية الاقتصادية المنفتحة. لقد عانت التجربة السياسية العربية الحديثة من الأفكار الثورية الراديكالية التي إما اختزلت الليبرالية في نمط التحديث الغربي الكامل دون مراعاة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، أو تبنت أطروحات القطيعة الجذرية لإعادة قولبة المجتمع وحمله عنوة على التقدم والتطور التاريخي.
في الحالتين، يتم النظر إلى ثقافة المجتمع بصفتها عائقاً أمام النهوض والتحديث، وينظر إلى الدولة بصفتها الوصية على المجتمع وطليعته القيادية المسؤولة عن تغييره. وفي الوقت الذي نقرأ كتابات عربية ضحلة عن التجربة اليابانية ترى فيها دليلاً على نجاعة مسلك الخصوصية الحضارية المغلقة على نفسها، نرى أن قوة هذه التجربة تكمن في انفتاحها وجرأتها وحيويتها. الأمر هنا يتعلق بتجربة حداثية مكتملة البناء والشروط وفق قواعد النهوض الموضوعية في العصر الحاضر، لكنها تطرح خياراً ليبرالياً محافظاً نرى أنه هو المسلك الملائم للمجتمعات العربية الراهنة. الخيار المحافظ هو الذي يحرص على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي، ويعمل على حماية الهياكل المجتمعية التي تقوم عليها الهوية الخصوصية، فيقطع الطريق أمام دعاة القطيعة العدمية من متطرفين حاملين لمشروع أدلجة الدين أو تثوير المجتمع بالتحشيد والقوة.