شهدت الساحة الفكرية العربية خلال العقد الأخير حراكًا فلسفيًا ملحوظًا، تمثّل أساسًا في: زيادة المؤتمرات الفلسفية، وتداول الكتاب الفلسفي، وتضاعف الترجمات الفلسفية، وتوسّع دائرة الاهتمام بالفلسفة وبتدريسها عربيًا. وخاصة في الخليج العربي الذي يُعتبر هو المحرك الأساسي لصناعة المعرفة عربيًا في الفترة الراهنة.
يكفي أن نشير إلى جملة من الأنشطة الفلسفية التي حدثت خلال الأشهر العشرة الأخيرة، مثل: مؤتمر الرياض الدوليّ للفلسفة، والذي عقد تحت عنوان “القِيم العابرة للثقافات والتحديَّات الأخلاقية في العصر التواصلي”. ومؤتمر جامعة محمد بن زايد الدولي في دورته الثانية تحت عنوان “الفلسفة ورهان التقدم النظري والاجتماعي”. وملتقى “بيت الزبير الفلسفي” في سلطنة عمان. وندوة “فلسفة القانون: مكانتها وإسهاماتها في الفكر الفلسفي العالمي والعربي المعاصر”، والتي انتظمت بالتعاون بين جامعة الكويت ومجلة تبين القطرية. وندوة “نحو تفكّرٍ فلسفيّ عربيّ جديد” التي نظمتها مؤسّسة الفكر العربيّ بالشراكة مع معهد تونس للفلسفة. ثم إطلاق معجم الفجيرة الفلسفيّ. هذا بالإضافة إلى عشرات الندوات والملتقيات الفلسفية في العراق ومصر والأردن ولبنان، وفي دول المغرب العربي بحيويتها الفلسفية المعهودة، فضلًا عن صدور عشرات المجلات والكتب والمقالات الفلسفية.
ما طبيعة هذا الحراك الفلسفي؟ هل هو عرضي أو جوهري؟ وإلى أي غاية يسعى؟ وهل أثار إشكاليات جديدة؟ وما هي علاقته بما قبله؟ هل هو تراكم أو تجاوز أو قطيعة؟ وهل الاهتمام بالفلسفة الآن ينطق من وعي عميق بأهميتها ودورها في تحقيق إنسانية الإنسان؟ أو هو مجرد وسيلة لتصفية بعض الحسابات السياسية وتجفيف منابع بعض التيارات الأيديولوجية؟ تلك أسئلة نتركها للتاريخ.
وعلى أهمية هذا الحراك الفلسفي الجديد، فإنّ نتائجه الأولية كشفت أنّ الفكر العربي أمام مفترق طرق، إما أن يَكُفّ عن التفلسف ويُعلِن نهاية الفلسفة عربيًا، أو يبحث عن طريق جديد لتفلسف عربي جديد، يشارك في النقاش الكوني، ويحمل همومنا ومشاكلنا وتحدياتنا ورؤانا إلى العالم.
لذلك لا مناص من إعادة النظر في المسلّمات والمعهودات، وما أصبح عادة لدى المشتغلين بالفلسفة في الفضاء العربي، وأن يُواجه المتفلسفة العرب أنفسهم بالأسئلة الحرجة والغائبة والمغيّبة، ويجترحون أسئلة جديدة، تنطلق من الواقع الاجتماعي: تفككه وتصوغه وتبنيه ابستمولوجيا. تَنتَبِه لما هو كائن وتتطلع إلى ما ينبغي أن يكون. أي يبلغ الفكر العربي مرحلة النضج والرشد، يتسم بالاستقلال والوضوح والمواكبة، وأرضية ذلك هي:
أولًا: لا تجديد مع الاجترار والتكرار. فلنحقق تفلسفًا عربيًا جديدًا يشارك في النقاش الكوني، ويساهم في حل المشاكل التي تواجه إنسان هذا الزمان لا بد أن نعتمد على ذواتنا وأن نثق في قدراتنا. إنّ اجترار السلف ليس تفلسفًا، كما أنّ سرد أقوال الآخرين واستعراض تجاربهم ليس تفلسفًا، بل هو عنعنة جديدة، وتقليد جديد، واستقالة عقلية وكسل معرفي.
ثانيًا: لا تفلسف مع الغموض والالتباس، فالفلسفة ليست تَفَيهُقًا ولا إعماءً مصطلحيًا ومفهوميًا. صحيح أنّ للفلسفة لغة مميّزة، ومنهجًا خاصًا، قوامه المفهمة والنقد والمحاججة والبرهنة. ولكن الفلسفة في النهاية شرح وتفسير وتأويل. وقد يقول قائل إنّ الفلسفة عبر تاريخها لم تكن واضحة ومنكشفة للجميع، ربما هي كذلك، ولكن غايتها كانت دائمًا هي الكشف والانكشاف.
ثالثًا: لا تفلسف دون مواكبة المتغيّرات والمستجدة، إننا في زمان لا يمكن أن نتعاطى فيه مع الفلسفة على نحو ما كان. فلا بد أن نعيد النظر في تعاملنا مع الفلسفة: تدريسًا وممارسةً وتأليفًا. فنقدّمها بمنهج مغاير يخرجها من الخصوص إلى العموم حسب الإمكان، ونتفلسف بأسلوب جديد، علّنا نجد فيلسوفًا جديدًا لهذا الزمان الجديد. وإلا فإنّ الفلسفة ستتبدد.
رابعًا: لا تفلسف دون سلطة واعية، في ظل الدولة الحديثة التي تتدخل في كل مفاصل حياة الإنسان، من شهادة إعلان الميلاد إلى شهادة الوفاة، لا يمكن للفلسفة أن تتجدد وتلتحم بالإشكاليات الراهنة، وأن تكون رافدًا من رافد التقدّم والتنوير والتنمية بدون حكومات فاهمة، تدرك قيمة الفلسفة الحضارية والنقدية والاجتماعية والأخلاقية والإنسانية.
إنّ التفلسف العربي الجديد المنشود لا يمكن أن يتحقق إلا إذا وصلنا إلى مرحلة الرشد والاقتدار والمواكبة والاستقلال، والطريق إلى ذلك ليس سالكًا بل ربما يكون مسدودًا، ولكن “لا بد أن نجد طريقًا أو نفتح طريقًا، فالطريق تفتحه خطانا”.