spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الرأسمالية والديمقراطية.. جدل يتجدد

في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «أزمة الرأسمالية الديمقراطية»، يتساءل الكاتب والإعلامي البريطاني مارتن وولف: هل ما زال للنموذج الليبرالي الجامع بين اقتصاد السوق الحرة والانتخابات التعددية الشفافة مستقبلاً، بالنظر إلى توسع دائرة الأنظمة التسلطية وتحول الرأسمالية إلى نمط من العولمة المتوحشة «الفاسدة»؟ السؤال وارد من عدة أوجه، من بينها قيام ضروب جديدة من الديمقراطية غير الليبرالية وتنامي النزعات الشعبوية المناوئة لأفكار التقدم والتحديث، وعجز المسارات الانتخابية في عدة ساحات كبرى عن حسم الشرعية السياسية.. إلخ.

وقد وصل الجدلُ مستوى غير مسبوق بعد الانتخابات الأميركية الأخيرة (نوفمبر 2020) التي أوصلت الرئيس «الديمقراطي» الحالي جو بايدن إلى السلطة، في الوقت الذي رفض الرئيس المهزوم ترامب نتائجَها، مدعوماً من قطاع واسع من الشارع الأميركي. وفي أوروبا، نلمس اتجاهين بارزين هما صعود التيارات المحافظة والقومية الرافضة للقيم والأفكار الليبرالية والساعية إلى تقويض نظام توازن السلطات الذي هو أساس الديمقراطية التعددية، وتحول العمل السياسي للمعارضات الحزبية والمدنية إلى نمط من التمرد الاحتجاجي خارج قنوات الضبط المؤسسي التقليدية.

أما في بلدان الجنوب (آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية) التي عَرفت خلال العقود الماضية مسارات التحول الديمقراطي، فتعيش موجةَ تراجعِ وانحسارِ «الربيع الليبرالي»، وفق مؤشرات المؤسسات الدولية المعنية بقياس التحول السياسي في العالم.

لقد اعتبر وولف أن الديمقراطية التمثيلية والرأسمالية الاقتصادية متلازمتان لا سبيل للفصل بينهما، بيد أن طريقيهما انفصلا عملياً منذ أن انفصمت ديناميكية الاقتصاد المعولم عن الحركية السياسية، وتقلصت قدرة السياسات العمومية على التحكم في الأوضاع المعيشة للسكان. وهكذا غدت مؤسسات التمثيل والرقابة الحرة عقيمة، ولم تعد الحكومات قادرة على التأثير الإيجابي عن طريق القوانين والقرارات التنفيذية في الواقع الاجتماعي العيني.

لقد قامت الرأسمالية تاريخياً على معايير الوفاق الاجتماعي ودولة القانون، وهما دعامة النظام التنافسي القائم على المساواة في الفرص والإبداع الفردي الحر. ومن هنا بيّن وولف أن النسق الديمقراطي تولّد عن هذا النظام الاقتصادي الذي كان بحاجة إلى الاستقرار والتماسك الاجتماعي، فصاغ آلياتٍ فاعلةً وشرعيةً للتداول السلمي على السلطة اعتبرها المؤلف نمطاً من «الحرب الأهلية الشرعية».

لكن ما يتخوف منه وولف هو انهيار الديمقراطية الحديثة على غرار الديمقراطية اليونانية، من خلال تحالف الأقليات المهيمنة على الإنتاج والثروة وصعود السياسيين الشعبويين الذين لا يؤمنون بالنقاش العمومي الحر ولا بسلطة القانون المدني. إلا أن وولف يؤكد بصراحة أن كل النماذج البديلة عن الرأسمالية الديمقراطية فشلت عملياً، سواء تعلق الأمر بالديمقراطيات الشعبية في البلدان الاشتراكية، أو بالرأسمالية التسلطية على غرار بعض النماذج الآسيوية حالياً.

ومن هنا لا بد حسب رأيه من استعادة الحلف الاقتصادي السياسي الذي قامت عليه الليبرالية الغربية، بما يقتضي تجديد النسيج الصناعي المتصدع ودعم الطبقة الوسطى والطبقة العاملة من حيث هما دعامتان للاستقرار الاجتماعي. إن السؤال الذي لم يطرحه وولف، رغم اطلاعه الفلسفي والفكري الواسع، هو الإشكال التقليدي المتعلق بالأرضية الثقافية والقيمية للرأسمالية الديمقراطية، باعتبار أن مسار التوسع الرأسمالي العالمي لم ينتج عنه تلقائياً تمدد النماذج الديمقراطية الليبرالية خارج الساحات الغربية، ما عدا استثناءات قليلة من السهل ربطها بعوامل ظرفية خارجية.

لقد قُدمت عدةُ أطروحات لتفسير هذه الظاهرة، أشهرها بطبيعة الحال نظرية عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في ربطها الرأسمالية بالإصلاح البروتستانتي، إلا أن هذه النظرية بدأت اليوم تفقد أهميتَها العلمية في ضوء الأبحاث التاريخية والاجتماعية حول حركية الإصلاح الديني الأوروبية. ما أكدت عليه الدراسات الجديدة هو أن المقومات اللاهوتية للعمل الإنتاجي الحر غير خاصة بالبروتستانية، بل هي في قلب المعتقدات التوحيدية في اليهودية والكاثوليكية أيضاً، ومن هنا ندرك كيف بدأ العصر الصناعي الرأسمالي من إيطاليا الكاثوليكية.

ولقد أوضح المؤرخ الفرنسي المعروف بول فاين أن الرأسمالية الليبرالية هي نتاج حركية التنوير النقدي وليس التقاليد الدينية الوسيطة. ولهذا الإشكال وجه آخر يتحدد في السؤال عن إخفاق جل المحاولات الساعية إلى تمديد المسلك الرأسمالي الليبرالي خارج أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، إلى حد حديث «الآن مينك» عن صراع الليبراليات (الديمقراطية والتسلطية والاجتماعية.. إلخ) في العالم الراهن.

قد تكون الليبرالية الديمقراطية، كما قال وولف، نتاج الاقتصاد الرأسمالي ودعامته السياسية، إلا أنه لا يمكن اختزال الليبرالية التنافسية في خلفياتها الاقتصادية، بل يمكن القول إن الفكرة التنافسية الحرة نفسها تحيل إلى موقف فكري وخيار فلسفي في ما وراء التناغم والتزامن بين اقتصاد السوق ونظام الحرية التعددية.

أ.د السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

spot_img