spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الديمقراطية في الغرب: جذور الأزمة السياسية الراهنة

لا مناص من الإقرار بأن النموذج الديمقراطي يعرف انتكاسة حقيقية في قلب المنظومة الغربية، التي تشهد صعود النزعات الشعبوية المناهضة لليبرالية، وانهيار مؤسسات المجتمع المدني، وتراجع مجالات النقاش العمومي، وانحسار الإقبال على التصويت والممارسة الانتخابية.

عالم الاجتماع المشهور “إمانويل تود” في كتابه الأخير “هزيمة الغرب” ذهب إلى أن البلدان الغربية انتقلت من نموذج الديمقراطية الليبرالية إلى ما سماه بالألوليغارشيات الديمقراطية التي تكرس سلطة النخب المالية والإعلامية والبيروقراطية المهيمنة، بما يعني نهاية فكرة التمثيل الشعبي التي قامت عليها أصلًا التجربة الديمقراطية.
بل إن تود على غرار مفكرين آخرين، يذهب إلى حد التساؤل بأن هل ما تزال الديمقراطية الليبرالية محور العمل السياسي في العالم الغربي، أم أن هذا النظام يعيش أيامه الأخيرة؟

في بداية التسعينيات، كانت جل بلدان العالم انتقلت إلى الممارسة الديمقراطية، ولو بمستويات شديدة التباين، في حين نلاحظ في السنوات الأخيرة موجة انحسار وتراجع الديمقراطية حتى في قلب المنظومة الليبرالية الغربية.

لقد درس هذه الظاهرة عالم السياسة الفرنسي البارز بيار روزنفالون في كتب مهمة، نشرها في السنوات الأخيرة حول موضوع الشرعية السياسية، وأزمة التمثيل الانتخابي والمسألة الاجتماعية الجديدة في علاقتها بالإشكاليات السياسية والأيديولوجية.

في هذا السياق، يبين روزنفالون أن النموذج الديمقراطي لم يكن موضوع إجماع سياسي في المجتمعات الغربية لعقود طويلة. فبالنسبة لليمين، كان التخوف قائمًا من فكرة السيادة الشعبية، بينما كان هدف اليسار هو الثورة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية المطلقة وليس الحرية السياسية.

وهكذا لم تصبح الديمقراطية مطلبًا إيجابيًا في الغرب إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي بعد قرنين من الثورات التنويرية والليبرالية الأوروبية. لم يكن الترادف في البداية قائمًا بين فكرة التأسيس الذاتي الحر للنظام الاجتماعي وفكرة السيادة الشعبية المترجمة في العمليات الانتخابية والتمثيل النيابي.

بالنسبة لمفكري القرن الثامن عشر، كانت مقولة الديمقراطية مفهومًا قديمًا متجاوزًا، مرتبطًا بالعصر اليوناني الروماني، ولا يتناسب مع معايير الإرادة الجماعية المشتركة التي هي أفق التنوير الحديث. إنها مجرد تقنية سياسية وشكل من نظام الحكم، ولا يمكن أن تجسد السيادة الشعبية.

وعندما دخلت مقولة الديمقراطية القاموس الليبرالي الحديث، كانت تعني المجتمع المتساوي المتضامن وليس شكل النظام السياسي المعبر عن الإرادة الشعبية الجماعية.

حدث التحول في منتصف القرن الثامن عشر مع اعتماد النظام الانتخابي الشامل، فأصبحت عبارة ديمقراطية تعني في آن واحد نظامًا سياسيًا وشكلًا من أشكال المجتمع، وبعبارة أخرى المثال التحرري الأعلى الذي يسعى المجتمع إلى تحقيقه.

وعلى الرغم من الإجماع العارم على مثال “الديمقراطية”، إلا أن هذه العبارة ظلت غائمة غير محددة، ومن ثم الميل إلى إضافة أوصاف لها مثل الليبرالية، والشعبية، والاشتراكية والراديكالية، بما يترجم اختلافًا دلاليًا واسعًا حول هذا المفهوم المركزي في الفكر السياسي المعاصر.

إن هذا الغموض الذي يكتنف مصطلح الديمقراطية ليس مجرد اختلاف لفظي أو دلالي، بل يعبر عن جوهر الديمقراطية نفسها، من حيث هي نمط من النظام السياسي غير المحدد رغم الاتفاق القائم حولها. وهذا النقص في التحديد هو في آن واحد نقطة قوة في الممارسة الديمقراطية من حيث هي مثال مفتوح، وفكرة موجهة ونقطة ضعف تفسر سهولة اختطاف وسوء استخدام هذا المفهوم حتى من لدن الأنظمة التسلطية الاستبدادية.

ما نستنتجه من نظرية روزنفالون هو أن المعيار الأساسي في النظرية الليبرالية الحديثة ليس الديمقراطية في ذاتها بل الإرادة الحرة للمجتمع من حيث هو نسق قانوني توافقي من أفراد متساوين. ما يفرق بين هذه الرؤية و التقليد الديمقراطي هو أن نظام المشاركة الشعبية الذي اعتمدته في السابق الديمقراطيات القديمة في اليونان لم يعرف ما سماه بنجامين كوستان “حرية المحدثين” التي تقوم على الاستقلال الفردي، والذاتية المكتفية بنفسها والانتفاع الاستهلاكي غير المقيد.

السؤال الذي طرح بقوة على الليبراليين المحدثين هو كيف يمكن الحفاظ على هذه المكاسب الذاتية الفردية في نظام اجتماعي معرض دومًا لهيمنة السلطة المتحكمة ولو باسم الأغلبية العددية أو الموازين الخفية؟

كان جان جاك روسو فيلسوف “الإرادة المشتركة” يقول بوضوح إن هذه الفكرة لا يمكن أن تتأقلم مع محددات الاقتراع والانتخاب، ومن ثم يتأرجح الحل بين نفي حرية الأفراد والمجتمعات لصالح سيادة الدولة المطلقة الضامنة للأمن والمساواة (أطروحة هوبز)، أو العودة المستحيلة لنمط من حالة الطبيعة الطوبائية ما قبل الحديثة.

في الحالتين، يبدو من المفارقة الجمع بين مقاربة الإرادة الشعبية المشتركة التي تتجسد في القوانين العقلية الكونية والنظام التمثيلي الانتخابي الذي ينطلق من النظرة التجزيئية للمجتمع دون سقف معياري ولو في دلالته الدنيا.

وبقدر ما يكون من المشروع التساؤل عن المضمون الليبرالي في نظرية السيادة الشعبية لدى هوبز ما دامت تقوم على نفي السيادة الفردية المطلقة، من المشروع في الآن نفسه التساؤل عن المأزق الديمقراطي في فكر روسو الذي حصر هذه السيادة في الاعتبارات القانونية الكونية وبالتالي قلص محددات النظام السياسي في التوافق العقلي الملزم.

السؤال المطروح عندئذ يصبح هو: كيف يمكن تصور سيادة شعبية جماعية ضمن منظور التوافق العضوي بين مجتمع له إرادة مشتركة، بحيث يتم في الآن نفسه الحفاظ على أولوية الحرية الفردية التي هي القاعدة المرجعية للفكرة الليبرالية؟

إن هذا السؤال الجوهري لم يحسم جذريًا في الفكر الديمقراطي المعاصر، بما يفسر عودته المضطردة في لحظات التأزم السياسي المتواصلة التي عرفتها الديمقراطيات الغربية.

ومن تجليات هذا الإشكال راهنًا: الانزياح المتزايد بين آليات التمثيل الانتخابي ومعايير السيادة الشعبية الذي هو في قلب الصدام الحالي بين الحركات الشعبوية التي تدعي الانطلاق من مرجعية السيادة الشعبية لنفي الحريات الفردية والمدنية، وحركات حقوق الإنسان التي تعطي الأولوية لمبادئ الحرية الكونية المجردة على اعتبارات السيادة الوطنية وقد تزايد كثيرًا دورها في الحقل السياسي في السنوات الماضية.

spot_img