في ندوة حوارية أخيرة نظمتها الأكاديمية الديبلوماسية الموريتانية حول أوضاع منطقة الساحل الإفريقي، دافع أحد المتدخلين عن الانقلابات العسكرية التي عرفتها المنطقة مؤخراً، معتبِراً أن تدخل الجيش كان في غالب الأحيان ضرورياً للخروج من مأزق مسدود قادت إليه الأنظمة الديمقراطية الفاسدة.
وليس هذا الصوت نشازاً في أفريقيا التي تَعرف في أيامنا هذه عودةَ الأنظمة الانقلابية، كما هو بارز في منطقة الساحل وغرب أفريقيا التي قامت فيها أربع انقلابات عسكرية مؤخراً، بالإضافة إلى الانقلاب الذي حدث في الغابون الصيفَ الماضي. بدأ هذا المسار في دولة مالي التي كنا نعتبرها نموذجَ التحول الديمقراطي الناجع في أفريقيا، بثورتها الشعبية الليبرالية عامَ 1991، بينما عرفت بوركينا فاسو في عام 2014 حدثاً مماثلاً بعد عقود طويلة من حكم بليز كامبورا، أما غينيا فكنا نظن أنها تخلصت كلياً من عهود الأحكام العسكرية الاستثنائية بعد انتخاب المعارض اليساري المثقف ألفا كوندي سنة 2010.
صحيح أن أفريقيا عرفت سلسلةً متصلةً من الانقلابات العسكرية منذ ستينيات القرن الماضي، لم تخل منها سوى دولة السنغال في غرب القارة. ولقد تمت الانقلابات المذكورة في حقبة الحرب الباردة وصراع المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، بما يفسر أن أغلب الأنظمة العسكرية أوانها اعتمدت نظامَ الحزب الواحد ومسلك «الديمقراطية المركزية»، وإن كان العديد منها دبرته المصالح الاستخباراتية الغربية.
إلا أن حقبة التسعينيات شهدت تحولاً نوعياً في طبيعة الأنظمة السياسية الأفريقية، بتبني الديمقراطية الليبرالية والتعددية الحزبية وانتقال السلطة إلى الزعامات المدنية، باستثناء حالات نادرة تكيفت مع منطق التحولات دون عناء. لكن التجارب الديمقراطية الأفريقية الناشئة عانت مصاعبَ جمةً، نذكر منها هشاشة الحقل المدني، وضعف المؤسسات العمومية، وسيادة اقتصاد الجريمة والفساد.. إلخ، مما أدى في نهاية المطاف إلى تعثر مسارات التحول الديمقراطي في جل بلدان القارة.
ومع أن بعض السياقات عرفت خيارَ التناوب السلمي على السلطة، فإن كثيراً من الأنظمة الحاكمة اتجهت إلى تغيير المواد الدستورية ذات الصلة بانتقال الحكم، وقضت جذرياً على توازنات السلطة الضرورية في أي نظام ديمقراطي، وألغت عملياً مرجعية القانون العمومي الضابط للحقوق والحريات. هل كانت الانقلابات التي حدثت أخيراً ضروريةً لإصلاح هذه الاختلالات البنيوية وتسديد المسار الديمقراطي المتعثر؟
لا مناص من الاعتراف بأن الحركات الانقلابية الجديدة تمت في الغالب في ظرفيات سياسية متأزمة وحققت قبولاً واسعاً في الشارع المحبَط. بيد أني في تعليقي على المتدخل في حوار الأكاديمية الديبلوماسية الموريتانية ذكرتُ أن الانقلابات العسكرية في أفريقيا، مهما كانت أسبابها ومبرراتها، لا يمكن أن تكون حلاً ناجعاً لأي أزمة سياسية ولو كانت حادة ومعقدة.
ففي الدول التي شهدت في السنوات الأخيرة حركات انقلابية، رفعت الحكومات العسكرية شعارَ الإصلاح السياسي، بيد أنها فشلت في إدارة الحكم وفي ترتيب الأوضاع الانتقالية، وتردت في الأخير علاقاتُها بالطبقة السياسية التي بادرت في البداية إلى دعمها. وقد ظهر من الجلي، أن الأنظمة الانقلابية الحالية، على عكس الحكومات العسكرية السابقة التي مسكت بالسلطة في العقدين الماضيين، لم تتبنَّ سقفاً لنقل الحكم إلى المدنيين، بل إن الضباط الشباب الذين انتزعوا الأمرَ يميلون إلى الترشح لمركز الرئاسة في المستقبل، بما يعني سد منافذ التغيير والتناوب التي هي مقاييس تقويم الأنظمة الديمقراطية. وفي تعليقه على هذه التحولات الأخيرة، اعتبر المفكر الكاميروني آشيل بمبة أن الأحكام العسكرية الجديدة في القارة تندرج في نطاق ما دعاه بالنزعة السيادية الجديدة، التي تتشابه مع الدعوات القومية التحررية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته من حيث الخطاب المعادي للاستعمار والهيمنة الأجنبية، لكنها تعكس فراغاً اجتماعياً قاتماً وفشلاً ذريعاً في السياسات التنموية والأمنية، بما يجعلها عاجزةً عن إحداث أي تغيير حقيقي.
قد يميل البعض إلى إدراج هذه الأحكام العسكرية في نطاق الموجة الشعبوية الصاعدة في الغرب، بيد أن الحركية الشعبوية هي في آن واحد تعبير من تعبيرات الديمقراطية (أولوية إرادة الأمة على المعايير الليبرالية الفردية والاجتماعية) ومظهر لأزمتها، في حين أن النزعة السيادية الجديدة لدى الحكومات الانقلابية الإفريقية تكرِّس نفيَ الديمقراطية وإلغاءَها كلياً. خلاصة الأمر أن الديمقراطية تصحح نفسَها بنفسها ولا يمكن الرهان على الأنظمة العسكرية في الإصلاح السياسي وتحرير خيار التداول السلمي على السلطة.