spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الدول «الأقوامية» في أَوج ازدهارها!

في الذكرى المئوية لمعاهدة لوزان – يوليو (تموز) 1923 – التي جرت المفاوضات عليها في المدينة السويسرية بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وممثلي عصبة الأمم مع جمهورية تركيا الجديدة آنذاك، اشتعلت الأقلام في تركيا بين مادحٍ وناقد، وأجمع الأكراد في البلاد والمهاجر على التنديد بها. عن معاهدة لوزان بعد مائة عام كتب سعيد عبد الرازق في جريدة «الشرق الأوسط» تحقيقاً (25/7/2023). أما الزميل الدكتور محمد الأرناؤوط فقد كتب قبل أيام من كوسوفو مقالةً مضيئة عن معاهدة سيفر عام 1920 بين تركيا والأطراف ذاتها. اعتبر الأتراك معاهدة سيفر مذِلة، لأنها أعطت اليونان أجزاء من تركيا، وكانت اليونان وقتها تستعدّ لاحتلال أزمير وتشريد سكانها، كما كانت إسطنبول ما تزال محتلةً منذ عام 1918 من جانب قوات الحلفاء. والفرق بين المعاهدتين أنه في عام 1922 كانت القوات التركية بقيادة مصطفى كمال قد طردت اليونانيين من كل الأراضي الناطقة بالتركية، وانسحب الحلفاء من إسطنبول، وصاروا مستعدين للتفاوض مع مصطفى كمال (ممثلاً بنائبه وخليفته من بعده عصمت إينونو) من جديد. حصلت تركيا الكمالية على ما تريده في غرب الأناضول وشرقه، وتخلت عن «حقوقها» بالدول العربية، وظلت تطالب بالموصل ثم تنازلت عنها لتحصل فيما بعد على الإسكندرون من المستعمرين الفرنسيين لسوريا! لماذا ما يزال الأكراد (ومعهم الأرمن) منزعجين من معاهدة لوزان؟ لأنّ معاهدة سيفر (مادة 62) كانت قد تحدثت عن حقوق الأكراد والأرمن، في حين تجاهلت تلك الحقوق في لوزان!

كانت مرجعية «سيفر» اتفاقيات 1914 بعد الهزيمة العثمانية في الحرب البلقانية الثانية. بينما صارت مرجعية «لوزان» اتفاقيات سايكس – بيكو (1917) بين بريطانيا وفرنسا على تقاسم الأقطار العربية، والطموح لتقييد سيادة تركيا على إسطنبول ونَواحٍ أخرى، وهي الأمور التي زالت في لوزان بالانتصار التركي على اليونان، ومما زال أو اُزيل حقوق الأرمن والأكراد، بينما رُوعيت الأقليات الأخرى، وصارت لها حقوق ودول في لبنان ثم في فلسطين.

لماذا هذا التفصيل؟ لأنه في لوزان جرى النص على التبادل السكاني بين اليونان وتركيا. التبادل ماذا يعني؟ الإثنية أو الدين؟ هُجّر مئات الآلاف من الأرثوذكس إلى اليونان وكثيرون منهم ما كانوا يعرفون اليونانية، وهُجّر مئات الآلاف من المسلمين من اليونان إلى تركيا وكثيرون منهم ما كانوا يعرفون التركية! وازداد الأمر سوءاً على الأقليات في البلقان مثل بلغاريا وصربيا ومقدونيا ورومانيا، فتهجر ملايين تارةً لأنهم مسلمون، وطوراً لأنهم من أصول تركية! وقد قرأت قبل سنوات أنّ عدد الذين عانوا الموت أو التهجير من البلقان يبلغ عددهم نحو الملايين الستة، وما غادروا جميعاً إلى تركيا، بل جاء كثيرون إلى سوريا والأردن، كما سبق للأرمن نتيجة المذابح عام 1915. فماذا لو نتذكر ملايين القتلى والمهجرين عند قيام دولة باكستان الإسلامية عام 1947!

ما انحلّت المشكلة الكردية منذ ما قبل الحرب وإلى اليوم، والأكراد موزعون بين تركيا (15 مليوناً)، والعراق (5 ملايين) وإيران (7 ملايين) وسوريا (مليونان وأكثر). أما المسيحيون بلبنان ثم الأرمن فصارت لهم دول، لكنها كما هو معروف: دول فاشلة!

انصبَّ من جانب الدارسين والاستراتيجيين سخطٌ شديدٌ على «الدول الصغيرة» منذ مبدأ ويلسون عام 1920 في حق تقرير المصير للأقليات. وكما بدا الاضطراب والفشل منذ وقتٍ مبكرٍ في تجارب الدولة في الشرق الأوسط، صار بعد ذلك حاضراً في كل مكانٍ في أفريقيا، وبعض النواحي الآسيوية. فالآيديولوجيا والممارسات لدول اندماجية شاملة أو شمولية، بينما الواقع الاجتماعي تعددي لا يقلّل من تأثيراته وجود أكثرياتٍ في الدين أو في الإثنية. والأقليات الدينية والإثنية ضائقة بواقعها وبالحزام المشدود عليها. وبعد جهدٍ جهيد على مدى عقود وتسمية الأتراك لأكرادهم أتراك الجبال، أمكن لهم إنشاء حزب أو أحزاب، والوجود في البرلمان، ثم جاء إردوغان وبعد انفتاحٍ مبدئي أدخل زعيم الحزب الكردي المشروع إلى السجن، كما دخل قبله زعيم التنظيم الكردي المسلَّح. وما عاد الصفاء القومي وحيداً في تصرفات بعض الدول، فأضيف إليه الصفاء الإسلامي والصفاء اليهودي في إيران وإسرائيل، وقبلهما وبعدهما السودان الذي ابتُلي بالصفائية الإسلامية في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، فأفضى ذلك إلى انقسام جنوبه عنه، وها نحن نشهد اليوم على تجدد مشكلتين: مشكلة الجيش والميليشيا، والمشكلة العرقية (وليس الدينية) في دارفور، التي ظهرت عام 2004!

كانت أوروبا الخارجة من حربين ضروسين، قد تخلّت عن القومية الصافية والاندماجية، وأتاحت لها ديمقراطيتها التعبير عن تعدديةٍ من نوعٍ ما في ظلّ المواطنة المتساوية. لكنّ العقود الأخيرة شهدت صعوداً كبيراً لأحزاب اليمين التي تشدد على الهوية، وتراها أحياناً مهدَّدة بالمهاجرين، أو بالقوانين ذات النزعة الليبرالية. ومع أنّ الإسلاموفوبيا ليست أشدّ أمراض الاجتماع الأوروبي، لكنها صارت تتخذ أشكالاً تبدو أحياناً كاريكاتيرية وأحياناً أخرى مأساوية! هناك مباريات من سنواتٍ ومزايدات في التحقير من الإسلام ورموزه. ومن ذلك حدوث استفتاء ناجح على منع بناء المآذن في سويسرا، أو النشر المثير لأشكالٍ ورسومٍ لا هدف لها إلاّ إثارة الكراهية والتحقير وتارة تجاه الرموز التاريخية في الدين أو ضد الحجاب. وشاع أخيراً في السويد والدنمارك (الليبرالياتين العريقتين!) «تقليد» إحراق المصحف أو تمزيقه وبإجازةٍ من السلطات في الدولتين بحجة صون حرية التعبير! وكان الكُتّاب يمزحون بذكر عبارة كارل ماركس أنّ التاريخ يعيد نفسه، لكنه يكون مرةً مأساة ومرة ملهاة – فصار ذلك جدياً!

لقد ثبت أن السلطات الجديدة في الدول الأوروبية تكره الاختلاف والتعددية، سواء في السياسة أو في الثقافة. فحتى التلوين اليساري عندهم لم يعد مقبولاً. وبالأمس شهدنا ذلك في إيطاليا، واليوم نشهده في إسبانيا.

ماذا يعني جنون الهويات هذا؟ تقول رئيسة وزراء إيطاليا، التي فازت في الانتخابات بسبب تشددها، وهي تحاول إقناع الرئيس التونسي بكفّ موجات الهجرة عن بلادها: نحن محتاجون للعمالة المهاجرة، لكننا نريد تنظيمها! ولماذا عاش العرب والأفارقة في دارفور معاً قروناً متطاولة، وما عادوا يستطيعون ذلك الآن؟!

تركيا تحتفي بمئوية اتفاقية لوزان التي جلبت لها الاستقلال والحرية والحدود المُرْضية. لكنّ ربع شعبها يضيق ذرعاً بما تَعُدُّه الأحزاب السياسية التركية القومية والإسلامية إنجازاً. وبعد مائة عام على قيام دولة «الأمة اللبنانية» هناك فريق معتبر من اللبنانيين ما عاد مقتنعاً بالعيش مع الآخرين في دولةٍ واحدة! لا خيار بين الدول الاندماجية والأخرى الأقوامية التي تشتعل فيها النزاعات!

د. رضوان السيد / مفكر لبناني

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط

spot_img