spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الدولة الوطنية والمؤسسة العسكرية: الحالة الجزائرية

كثيرًا ما يقال إن لكل دولة جيشًا، إلا الجزائر التي أنشأ الجيش فيها الدولة وهو المتحكم فيها والمهيمن عليها. لهذه الظاهرة أسباب تاريخية موضوعية تعود إلى حالة التفكك والانقسام السياسي التي مهدت للغزو الإسباني وما تلاه من تدخل تركي أفضى لمدة ثلاثة قرون إلى قيام حكم الدايات الذين يدينون بالولاء للسلطنة العثمانية.

عرفت الجزائر قبل الحكم العثماني عدة دويلات وممالك منفصلة عن بعضها البعض يسوسها أمراء حرب (في القبائل، والجزائر، وجرجرة، وتوغرت والزاب وتلمسان…). ولم تكن سلطة القادة الأتراك تتجاوز المدن الكبرى وهي تقل عن خُمس مساحة البلاد، كما أنهم لم يختلطوا بالسكان أو يسعوا إلى وضع مقومات دولة مركزية أو بناء هوية وطنية جامعة. وهكذا ظلت مناطق واسعة تحت سيطرة الطرق الصوفية، والقبائل والقادة المحاربين. ولم تتشكل في الجزائر نواة دولة مستقرة وموحدة على غرار المملكة الحسينية في تونس المجاورة.

وربما كانت جذور أول دولة وطنية مركزية في الجزائر هي دولة الأمير عبد القادر التي لم تتجاوز منطقة الغرب ولم تعمر أكثر من عشر سنوات (من 1837 إلى 1847)، وحافظت إجمالًا على الطابع المرن للسيادة وفق أنظمة متعددة من الولاء والبيعة.

ولقد نشأت الحركة الوطنية من رحم مقاومة الاحتلال الفرنسي، وكان مشروع الأمة والدولة نتاج هذه الديناميكية. بيد أن الاستعمار الفرنسي نجح بالفعل في تقويض النخب الأهلية التقليدية على عكس ما حدث في المغرب وتونس، حيث قادت هذه النخب حركة التحرر الوطني، كما أن التوتر الحاد بين الجناح السياسي للحركة الوطنية (مصالي الحاج، وفرحات عباس وبن يوسف بن خدة) وجناحها العسكري المتمثل في تيار المقاومة الشعبية وتيار الضباط المنفصلين عن الجيش الفرنسي، قد أدى إلى إقصاء الطبقة السياسية المتمرسة على العمل النضالي والعلاقات مع الخارج.

ومع استقلال الجزائر في تموز/يوليو 1962 هيمنت المؤسسة العسكرية على السلطة، وتركز هذا النهج مع الانقلاب الذي قام به وزير الدفاع “هواري بومدين” في تموز/يوليو 1965. ومع أن الحزب الواحد “جبهة التحرير الوطني” ظل هو الوعاء السياسي للنظام في الدولة المستقلة، إلا أن محور الحكم لم يزل المؤسسة العسكرية التي انتقلت في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد (1979-1992) إلى واجهة السلطة الفعلية. ومع إزاحة بن جديد من السلطة في كانون الثاني/يناير 1992 وما تلا هذا الحدث من تعليق الحياة البرلمانية وتولى القيادات العسكرية الحكم مباشرة (في عهد المين زروال وزير الدفاع السابق، رئيس المجلس الأعلى للدولة ثم رئيس الجمهورية من 1994 إلى 1999)، انتقل قلب السلطة إلى الضباط المنفصلين عن الجيش الفرنسي (محمد العماري، وخالد نزار، والعربي بلخير ومحمد مدين المعروف بتوفيق).

لقد كان الإشكال الأكبر الذي هيمن على الساحة السياسية الجزائرية منذ إعلان التعددية الحزبية سنة 1989 (بعد انتفاضة خريف 1988) هو ضبط دور المؤسسة العسكرية في الحقل السياسي وفق قواعد الديمقراطية الانتخابية والنظام الحزبي التنافسي.

وكما يبين عالم الاجتماع “الهواري عبدي”، لم ينتج تاريخ الجزائر المعاصر دولة-أمة، بل أنشأ أمة ودولة ترتبطان بعلاقات خضوع وتبعية، بما يفرز دومًا أزمات سياسية متتالية ناجمة عن المتخيل القومي من جهة، وعن طبيعة الدولة ذات النطاق الضيق من جهة أخرى.

لقد لاحظ عبدي أن تصور الأمة الجزائرية الحديثة ظل مدار صراع حاد بين مقاربات ثلاث: شعبوية دافع عنها مصالي الحاج، وإسلامية بلورها عبد الحميد باديس، وحداثية طرحها فرحات عباس.

وفي حين تؤدي فكرة الأمة دور التوحيد السياسي عادة في بلدان العالم، فإنها هي أصل الانقسام والتصادم في الجزائر، بما يفسر هيمنة المؤسسة العسكرية التي يقتضيها ضمان الحد الأدنى من السلم الأهلي الداخلي. يرى عبدي أن الجيش في الجزائر لا يمارس السلطة، بل يجسد الأمة، ويمنع أي طرف بعينه من ادعاء تجسيد الهوية القومية الجماعية. ونتيجة لهذه الوظيفة التي تضطلع بها المؤسسة العسكرية، تنتهي هذه المؤسسة ضرورة إلى دخول الحلبة السياسية بحيث تغدو محور الصراع السياسي، ومن هنا تتزايد المخاطر على السلم الأهلي. ويخلص هواري عبدي إلى أن الدولة في كل بلدان العالم هي مسرح الفعل السياسي إلا في الجزائر التي ليست لها فيها سوى وظائف تقنية إدارية محدودة يحددها الجيش الذي ينتزع منها طابعها السياسي.

إن هذه الملاحظات التي يقدمها الهواري عبدي حول التجربة السياسية الحديثة في الجزائر تبرهن بوضوح على أن المأزق السياسي المزمن الذي عانت منه البلاد منذ قيامها يكمن في غياب التناسب الضروري بين الدولة والأمة، بغياب أمة عضوية مندمجة بهوية وطنية راسخة تعبر عنها دولة مركزية صلبة.

في الماضي، استطاع الجيش الحاكم توظيف سردية المقاومة الوطنية في سد الفراغات السياسية، وشكل الحزب الحاكم “جبهة التحرير” الإطار التنظيمي لضبط العلاقات النفعية مع النخب الإدارية والمجتمع الأهلي، إلا أن “ريع الذاكرة” لم يعد قادرًا على سد هذه الفراغات، بما يفسر الهزات الكبرى التي عرفها النظام السياسي من سنة 1988 إلى حراك 2019 الذي أفضى إلى تغييرات نوعية في تركيبة السلطة الحاكمة، ولا تزال آثاره مستمرة راهنًا.

لقد استطاع الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة تضييق هامش الهيمنة والقرار الذي تتحكم فيه المؤسسة العسكرية وأقال قادتها المتنفذين (من ضباط الجيش الفرنسي الملتحقين بالمقاومة الوطنية)، إلا أن القيادات العسكرية نجحت مرة أخرى في الاستفادة من مسار التحول وقدمت نفسها القوة الوحيدة القادرة على تأمين الدولة وحماية المجتمع من التفكك والتلاشي. بيد أنها فشلت في ضبط الإيقاع السياسي، بما يفسر هشاشة قاعدتها السياسية وعزوف الشارع عن الانتخابات، وتنامي بؤر المعارضة الراديكالية خارج قنوات التنظيم السياسي الشرعي والمقنن.

ومن هنا ندرك مخاطر التحول السياسي المفاجئ الذي ليست له أرضية وطنية تمتصه، نتيجة لهشاشة التركيبة الوطنية للدولة والتعارض الثابت بين مسار تشكل الدولة ومسار تشكل الأمة.

الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

 

spot_img