مع أن التركيبة القبلية ليست خاصة بالمجتمع اليمني، بل نلمسها في العديد من المجتمعات العربية، إلا أن الحالة اليمنية تبدو فريدة في السياق العربي. عادة ما يفسر المأزق السياسي اليمني بطغيان المعادلة القبلية التي حالت دون تشكل كيان وطني مركزي مستقر. وليست الأزمة الراهنة التي بدأت مع سيطرة المليشيات الحوثية على صنعاء سنة 2014 سوى دليل ساطع على هذه الحقيقة.
في اليمن نفسه، تسود الهوية القبلية في المجتمع، وتتركز في المرتفعات الجبلية الشمالية، وإن كانت حاضرة في الوسط والجنوب، وتنتظم إجمالًا حسب ثنائية النخب الهاشمية والقبائل القحطانية. وإذا كانت هذه الثنائية جلية في الشمال الذي يغلب عليه المذهب الزيدي وقد ارتبطت عضويًّا بمسار الإمامة، إلا أنها راسخة أيضًا في الجنوب رغم عهود طويلة من السيطرة الاستعمارية البريطانية ومن الحكم الشيوعي.
من المعروف أن المعادلة القبلية في اليمن تتركز حول ثلاث مجموعات كبرى: تكتلات قبائل بكيل، وقبائل حاشد المتمركزة في محافظات صنعاء وعمران وصعدة والجوف وبعض مناطق مأرب، وقبائل مذحج وحمير وكندة الموجودة في الوسط والجنوب، من تعز إلى حضرموت.
لقد ذهبت الأطروحات الإثنوغرافية والأنثربولوجية القديمة حول القبيلة اليمنية إلى أنها شكلت قطبًا سياسيًّا واجتماعيًّا منافسًا للدولة أو بديلًا عنها. وفق هذه المقاربة، يعتبر المجتمع اليمني مثالًا على المجتمعات الانقسامية المتمردة على الدولة، بما يفسر حالة الاضطراب الداخلي الحاد التي طبعت التاريخ اليمني ويؤكد على حاجة الدولة من الملكية إلى الأنظمة الجمهورية المتعاقبة للهياكل القبلية.
إن هذه الأطروحة المنتشرة على نطاق واسع في الأدبيات الغربية، تتعارض مع طبيعة المعطيات السياسية المعقدة للحالة اليمنية.
لقد تمايزت الأوضاع التاريخية بين الشمال والجنوب منذ عهود طويلة، وأنتجت هذه الظروف نظمًا سياسية شديدة التباين. عرف الشمال طيلة قرون الحكم العثماني (إيالة ثم ولاية اليمن)، لكن هذا الحكم كان ضعيفًا ومحدودًا وقد تعايش مع الإمامة الزيدية وسلطة القبائل المنفصلة، قبل أن تتأسس المملكة المتوكلية عام 1918 على يد يحيى حميد الدين المتوكل وهو أحد الأئمة الزيديين.
ومع أن القاعدة السياسية للمملكة المتوكلية تشكلت أساسًا من الكونفدراليات القبلية، لكنها كانت دولة بخلفية عقدية دينية وبسطت نفوذها أساسًا على قرى زراعية حضرية لا تقوم في نظامها الاقتصادي والاجتماعي على العصبية القبلية.
أما الجنوب، فقد ارتبط بالاحتلال الإنجليزي لعدن عام 1839، بيد أنه لم يشكل كيانًا موحدًا، بل عشرات السلطنات والإمارات التي انتظمت في “اتحاد إمارات الجنوب العربي” عام 1959 (أصبح اتحاد الجنوب العربي سنة 1962)، وإن كانت سلطنتا حضرموت والمهرة رفضتا الانضمام لهذا المشروع البريطاني.
ما نلاحظه هو أن شكل النظام السياسي في الجنوب انتقل من السلطة القبلية إلى نظام السلطنة السياسية، الذي وإن اعتمد على الأبعاد العصبية والعشائرية، فإنه تجاوز هذه الهياكل في شكل وحدات مركزية مرتبطة بأنظمة التجارة والملاحة البحرية والعلاقات بين شمال الجزيرة العربية والهند.
ومع أن الجمهوريتين اللتين عرفهما شمال اليمن (1962) وجنوبه (1967) عملتا على توطيد الهوية الوطنية اليمنية وتوحيد شطري البلاد الذي تم سنة 1990، إلا أن الدولة الوطنية اليمنية ظلت مشروعًا سياسيًا للنخب الأيديولوجية والعسكرية، ولم تتحول إلى حقيقة موضوعية رغم الشعارات المرفوعة من التيارات القومية والثورية اليسارية التي تصادمت عسكريًّا أحيانًا، وتعايشت سلميًّا أحيانًا أخرى.
لقد ظهرت تصدعات وثغرات المشروع الوطني سنة 1994 بتمرد القيادات الجنوبية على نظام علي عبد الله صالح ومطالبتها بالرجوع إلى الدولة الانفصالية المستقلة. بل إن بعض هذه القيادات (التي هي في غالبها من الأسر الهاشمية) شككت في انتماء الأقاليم الجنوبية لليمن تاريخيًّا وجغرافيًّا واجتماعيًّا.
وفي نهاية التسعينيات التي شهدت حالة استقرار سياسي نسبي تم فيها اعتماد التعددية الحزبية والنظام التمثيلي الديمقراطي، لوحظ استخدام السلطة القائمة التركيبة القبلية لدعم النظام الحاكم والدفاع عنه ضمن توافقات تضمنت إشراك مشايخ القبائل في ريع الدولة بعد اكتشاف وتصدير النفط المتركز في الجنوب.
ولقد تأسس حلف الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي) مع حزب الإصلاح الإخواني على هذه المعادلة القبلية التي ضمنت لعائلة الأحمر (من تحالف قبائل حاشد) الاشتراك الفعلي في مركز الحكم والقرار.
بيد أن التمرد الحوثي في الشمال الذي بدأ في صعدة سنة 2004 واستفاد من الحراك الثوري الذي قوض النظام منذ بدايات 2012 قبل أن ينجح في الاستيلاء على صنعاء عام 2014، شكل الضربة القاصمة للدولة الوطنية الهشة.
وكان من نتاج هذا التمرد تنصل القبائل الشمالية من الحلف مع “الجيش الجمهوري” وتحلل الدولة في الجنوب الذي بدأت تعلو فيه نغمة العودة للسلطنات والإمارات القديمة.
ومع أن التدخل العسكري العربي حافظ لليمن رسميًّا على بقاء الدولة التي انتقل مركزها السياسي لعدن، إلا أن حالة التفكك الفعلي للكيان اليمني لا تزال مستمرة.
ما نخلص إليه من هذه المعطيات التاريخية والأحداث الراهنة، هو أن الدولة الوطنية في اليمن فشلت في بناء كيان سياسي موحد، رغم عناصر التناسق والانسجام الكثيرة في المجتمع اليمني. لا يمكن في هذا الباب تحميل القبيلة إخفاق وفشل النخب السياسية، ذلك أن القبيلة لم تكن هي العائق الموضوعي أمام مطلب الاندماج الوطني وليست هي القوة التي قوضت الهياكل العمومية المركزية.
ولقد بينا أن المعادلة القبلية في اليمن تداخلت مع الدوائر العقدية والدينية (المذاهب الطائفية، والمشيخات الصوفية، والأربطة والزوايا العلمية)، كما تداخلت مع حالة الاستقرار المديني والقروي التي تطبع المجتمع اليمني في أغلب مناطقه.
ولئن كانت القبيلة في بعض الأحيان وقفت إلى جانب قوى التمرد والانفصال، فإنها في الغالب شكلت ركيزة النظام السياسي وأدت دور الحاضنة الاهلية للدولة، منذ قيام المملكة المتوكلية إلى ثورة 1962 وإعلان الجمهورية، وانتهاء بتوحيد الدولة عام 1990.
خلاصة الرأي هو أن فشل النخب السياسية اليمنية في بناء وتحصين الدولة الوطنية لا يفسر بالعائق القبلي، بل بطبيعة الجغرافية السياسية للعالم اليمني في مقوماته المجتمعية المحلية وسياقاته الإقليمية الخارجية.
الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني