غالبًا ما ينظر الفكر القومي إلى الدولة الوطنية بكونها حالة قطرية غير شرعية، يتعين تجاوزها نحو الدولة الموحدة الشاملة. في نفس السياق، تفسر نشأة الدولة القطرية أو دولة التجزئة بالمخططات الاستعمارية التي قسمت الكيان العربي إلى وحدات متناثرة مشتتة. وعادة ما تتهم اتفاقيات سايكس-بيكو الشهيرة بكونها المسؤولة عن مخطط التقسيم والتجزئة.
لقد تسنى لي في دراسة سابقة أن وقفت عند ديناميكية سايكس-بيكو التي ظلت اتفاقًا غير مطبق، وبينت أن الهندسة السياسية الأوروبية للعالم العربي المعاصر لم تكن في غالب الأحيان اعتباطية وإنما استندت إلى حقائق تاريخية واجتماعية، وصدرت عن محددات استراتيجية موضوعية، ومن خلالها تشكلت كيانات وطنية على أنقاض مجتمعات مفككة ومنقسمة.
وسأكتفي هنا بالوقوف على حال دولتين من دول المشرق ظهرتا في السنة ذاتها (1920) وهما لبنان والعراق. ما يجمع بين البلدين على اختلافهما كثير، وأهمه أن كليهما من أثر الانتداب الأوروبي، كما أن معادلتهما الطائفية المتنوعة حالة مشتركة تقرب بينهما رغم التمايز في طبيعة التركيبة المجتمعية .
كان لبنان حصيلة مزدوجة لسياسة الإدارة العثمانية والتدخل الأوروبي، منذ تأسيس متصرفية جبل لبنان سنة 1861 على أساس الائتلاف الماروني-الدرزي، قبل أن تضم سلطات الانتداب الفرنسي بيروت، والبقاع، ومدن طرابلس، وصيدا وصور، إلى الكيان الأصل في الجبل، معلنة نشأة الدولة الحديثة في نيسان/أبريل 1920.
وفي سنة 1926، تم إعلان الجمهورية في حدودها الراهنة ونالت استقلالها عام 1943 وفق نظام دستوري قائم على المحاصصة الطائفية لم يراجع إلا بصفة محدودة في اتفاق الطائف (تشرين الأول/أكتوبر 1989) الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة.
ومع أن الهندسة الاستعمارية الفرنسية سعت في البداية إلى فرض كيان للمسيحيين في جبل لبنان، قبل أن تضم إليه المدن الساحلية ذات الأغلبية السنية التي كانت على ارتباط مباشر بدمشق، إلا أن هذه الاستراتيجية راعت مجموعة من التوازنات والحقائق الموضوعية التي تأسست عليها في ما بعد الوطنية اللبنانية (التي عبرت عنها الشهابية نسبة إلى الرئيس الأسبق فؤاد شهاب، والصلحية نسبة لرئيس الوزراء الأسبق رياض الصلح).
لا يمكن تحميل السياسة الاستعمارية إخفاق النخب الوطنية اللبنانية في الحفاظ على كيان وطني متماسك وقوي، بذريعة أن هذا الكيان مصطنع أو مخترع، فجل بلدان العالم دول مصطنعة لا تستند إلى هوية تاريخية طويلة المدى .
نفس الحكم ينطبق على الدولة العراقية الحديثة التي أعلن عن نشأتها السير برسي كوك في تشرين الثاني/نوفمبر 1920، قبل أن يكتمل بناؤها السياسي في السنة الموالية من خلال توحيد الولايات العثمانية الثلاث: بغداد، والبصرة والموصل .
قيل الكثير عن الوحدة المصطنعة للكيان العراقي الحديث الذي وصفه الشاعر المشهور معروف الرصافي في “الرسالة العراقية في السياسة والدين والاجتماع” بأنه “وليد غير شرعي أنجبه الإنجليز”. ولقد شكك بعض المؤرخين في حدود الدولة العراقية الحديثة التي جمعت بين أرض السواد والجزيرة الفراتية، من منظور كون العراق بمفهومه الأصلي لا يتجاوز المنطقة الرسوبية، أي وسط وأسفل بلاد الرافدين، وبالتالي لا علاقة له بالمرتفعات الكردية، وإقليم الجزيرة والصحراء الجنوبية الغربية. بل إن المكتب العربي في القاهرة الذي فرض خيار الدولة الوطنية في حدودها الحالية واجه اعتراضات كثيرة، بالنظر إلى الترابط العضوي بين البصرة والخليج العربي، وبين الموصل وبلاد الشام وتركيا فضلًا عن كون هذا الإقليم منحته اتفاقيات سايكس-بيكو لفرنسا في إطار تقاسم النفوذ على الولايات العثمانية العربية .
وعلى الرغم من هذا الحوار التاريخي الذي له خلفياته الأيديولوجية الراهنة، تشكلت وطنية عراقية قوية وصلبة، ظهرت بوضوح خلال العهد الملكي الذي انصهرت فيه المكونات السنية، والشيعية والكردية، في مجتمع سياسي متماسك .ولا يشكل هذا التنوع الطائفي في ذاته عقبة أمام انبثاق هوية سياسية صلبة أو تشكل دولة وطنية فعالة، بل لعل الميزة الكبرى في مسار نشوء الدولة هو دمج وضم هذه المكونات الاجتماعية في بناء سياسي مشترك، بدل السعي لإنشاء دويلات طائفية وقومية صغيرة وضعيفة .
وهكذا لم يكن سبب الانهيار السياسي الذي تلا الحرب الأمريكية في العراق سنة 2003 هو التركيبة المجتمعية المتنوعة في البلاد كما يعتقد، بل إن تدمير القاعدة المركزية للدولة من مؤسسة عسكرية وإدارية هو السبب الفعلي لحالة التفكك الاجتماعي التي كرسها دستور المحاصصة الطائفية الصادر سنة .2005
ما نخلص إليه من تحليل الحالة السياسية في لبنان والعراق، هو أن القوى السياسية لم تستطع الحفاظ على تركة الدولة الحديثة التي تأسست في إطار التفاعل الحي بين الهندسة الاستعمارية الأوروبية ومطالب النخب المحلية التي ينتمي أغلبها للحركة العثمانية العربية .
لا أحد يجهل التداخل الوثيق بين مكونات المجتمع العربي في ما وراء الحدود المرسومة دوليًّا، فمن الخلف إنكار الارتباط العضوي بين الساحل اللبناني ودمشق أو بين منطقة الأحواز الإيرانية وإقليم البصرة،كما أن علاقات الموصل ببلاد الشام معروفة لا تحتاج لبيان .
بيد أن هذا التداخل ليس خاصًا بالبلدان العربية، بل هو ظاهرة ملموسة في الجغرافيا السياسية المعاصرة التي كرست مبدأ السيادة الوطنية ولو على حساب الهويات المجتمعية المشتركة. ومن هنا فإن البديل العيني للكيانات الوطنية العربية اليوم ليس الدولة القومية المتحدة التي لا تزال أفقًا بعيدًا، وإنما هو مزيد من التجزئة والتفكك عبر الكيانات الطائفية والإثنية المحدودة غير قابلة الاستمرار.
لقد تحول بالفعل جنوب لبنان بذريعة المقاومة إلى كيان منفصل عن الدولة يديره “حزب الله”، في حين انفصل شمال العراق بالفعل عن الدولة العراقية، وتحولت المدن الدينية في الجنوب إلى كيانات ثيوقراطية تتحكم فيها المؤسسة الدينية.
هكذا نخلص إلى أن بناء الهوية الوطنية الصلبة ضمن دولة موحدة هو شرط التطلع المشروع نحو التكتل القومي، والسعي لوحدة الأمة في ما وراء الحدود الإقليمية الراهنة.
الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني