spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الدولة الوطنية والتنوع الإثني: الحالة السودانية

كتب السياسي السوداني المخضرم منصور خالد في كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل”: “إن مشكل الوحدة الوطنية يعود كله إلى عجز الأنظمة المتعاقبة على حسم قضية الانصهار الوطني حتى يصبح رباط المواطنة هو العروة الوثقى بين أبناء الوطن الواحد”.

ومع أن منصور خالد رحل عن الدنيا في شباط/فبراير 2020 بعد شهور من سقوط نظام عمر البشير الذي حاربه طويلًا، إلا أن ملاحظاته الثاقبة حول الأزمة السياسية السودانية تشكل اليوم محور النقاش العارم بين الفاعلين السياسيين المدنيين في أفق التوصل إلى وضع قواعد جديدة لإدارة وحكم هذه الدولة التي عرفت منذ استقلالها سنة 1956 أزمات داخلية كثيفة متتالية.

لم يكن انفصال جنوب السودان سنة 2011 سوى الحدث الأبرز في مسار متأزم بدأ منذ استقلال البلاد في شكل حرب أهلية طويلة توقفت مع اتفاق أديس أبابا عام 1972 قبل أن تتجدد سنة 1983 ولا تتوقف إلا مع اتفاقية تيفاشا 2005 التي فسحت المجال أمام استقلال الجنوب. بيد أن انفصال الجنوب لم ينه الصراع الداخلي في السودان الذي استمر بوتيرة فظيعة في أقاليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ولا تزال بؤر التوتر مشتعلة منفجرة اليوم.

لم تنجح الحكومات المدنية الديمقراطية التي حكمت البلاد فترات قصيرة (من 1954 إلى 1956، ومن 1964 إلى 1969، ومن 1986 إلى 1989) في تسوية هذه الإشكالات الداخلية المعقدة ،كما لم تنجح الحكومات العسكرية المتعاقبة (الجنرالات الثلاث: إبراهيم عبود، وجعفر النميري وحسن الترابي) في إدارة الملفات ذاتها بطريقة ناجعة.

ومع المرحلة الانتقالية الراهنة التي بدأت مع ثورة نيسان/أبريل 2019، يكثر الحديث حول طبيعة وشكل الدولة الوطنية السودانية المستقبلية، مع بروز مشاريع متعارضة حول هوية هذه الدولة وتركيبتها.

كان الجنرال عمر البشير مزهوًا بانفصال جنوب السودان سنة 2011، ويعتبر أن هذا الحدث سيكون له الأثر الإيجابي على طبيعة الدولة من حيث هويتها العربية الإسلامية بعد أن تخلصت من مكوناتها الإفريقية السوداء المسيحية.

بيد أن استقلال جنوب السودان لم يحل مشكل الهوية القومية السودانية التي قامت تاريخيًّا على أساس توحيد مناطق شديدة التباين الجغرافي والبشري، لم تكن تنتمي تاريخيًّا لكيان سياسي مركزي.

عادة ما يربط المؤرخون نشأة الدولة السودانية المركزية بالغزو العثماني-المصري سنة 1821 الذي استمر إلى عام 1880 وانتهى على يد الثورة المهدية عام 1885 التي أقامت أول دولة وطنية في المجال الذي وحده الوالي العثماني محمد علي باشا، لكن هذه الدولة هزمها الإنجليز عام 1899 وأقاموا ما عرف بالحكم الثنائي البريطاني-المصري الذي استمر إلى استقلال البلاد.

ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن الدولة السودانية الحديثة كانت مشروعًا عثمانيًّا ثم بريطانيًّا بالاتكاء دومًا على مصر، سمح بالجمع بين المناطق النيلية الشمالية والمناطق الاستوائية الجنوبية وأعالي النيل وبحر الغزال، ولم يضم إقليم دارفور إلى هذا الكيان إلا سنة 1916.

لقد كانت هذه المناطق متمايزة، لا تخضع لسلطة مركزية واحدة، ولذا فإن إدارة هذه الدولة الشاسعة الممتدة من البحر الأحمر إلى الصحراء الساحلية الكبرى، ومن الأقاليم الاستوائية إلى تخوم البحر الأبيض المتوسط ظلت تحديًّا عصيًّا على الحل.

لقد تعاملت الإدارة البريطانية مع الوضع السوداني من منظور التمييز المؤسسي والإداري بين الشمال والجنوب (قانون المناطق المقفولة الصادر سنة 1922)، واتبعت في الأقاليم النيلية الوسطى ذات الأغلبية العربية المسلمة “نظام الإدارة الأهلية” الذي يعزز سلطة القبائل والزعامات الأهلية على السكان المحليين. هكذا، ورثت الدولة الوطنية المستقلة هذا النموذج من السياسات الاستعمارية، فعملت على تعميق الحواجز والفوارق بين الجنوب والشمال، واستندت على التركيبة القبلية التي تماهت مع الهويات المناطقية وشكلت مقومات ثابتة لعملية التمثيل السياسي القاعدي.

ومع أن آخر إحصاء إثني في السودان (تم سنة 1955) يتحدث عن وجود 56 جماعة عرقية وأكثر من 115 لغة محلية ويعتبر أن نسبة العرب الإجمالية لا تتجاوز 39 بالمئة من السكان، إلا أن الدولة الوطنية الحديثة لم تنجح في بلورة سياسات الاندماج الوطني التي يقتضيها ضبط تركيبة النسيج الاجتماعي المتنوع عرقيًّا ودينيًّا.

وفي الفترات الديمقراطية القصيرة، عادة ما يسيطر الحزبان الطائفيان: حزب الأمة المنحدر من الطريقة المهدية والحزب الاتحادي الممثل للطائفة الختمية على موازين التمثيل الانتخابي ومراكز السلطة والحكم (يتركز وجود الأنصار المهديين في غرب السودان والنيل الأبيض، في حين يتركز وجود الختمية في الشمال والشرق).

وعادة ما تميل الأنظمة العسكرية إلى التحالف مع الأحزاب الأيديولوجية مثل تحالف النميري مع الشيوعيين في فترة حكمه الأولى قبل أن يستبدلهم بجماعات الإسلام السياسي، أو تحالف عمر البشير مع حزب حسن الترابي ذي الجذور الإخوانية. ولئن كانت هذه التنظيمات الأيديولوجية فاعلة في عملية التغيير السياسي الثوري (كما هو ظاهر اليوم في دور اليسار القومي والشيوعي في العملية الانتقالية الجارية)، إلا أنها في الغالب تخسر معركة التمثيل الديمقراطي التي من المألوف أن تظل في يد الأحزاب الأهلية الطائفية.

ما الذي نستنتجه من الحالة السودانية؟

من الواضح أن الدولة الوطنية لم تنجح في بناء هوية مجتمعية منسجمة، ولقد ظل الصراع السياسي خلال الستين سنة الماضية متمحورًا حول آليات وميكانيزمات إدارة التنوع العرقي والديني. وعلى الرغم من انفصال الجنوب سنة 2011، لا يزال موضوع الولايات الإفريقية (الزنجية) مطروحًا بحدة، تتبناه الحركات السياسية المسلحة النشطة في الحراك الحالي.

وإذا كان بعض السياسيين يتبنى حاليًّا الخيار الفيدرالي الذي أثبت نجاعته في عدة بلدان إفريقية متنوعة التركيبة العرقية والدينية (مثل نيجيريا وإثيوبيا)، فإن البعض الآخر يطرح نموذج الدولة العلمانية الليبرالية المحايدة تجاه الانتماءات الدينية والقومية.

وخلاصة القول، إن الحالة السودانية تمثل في السياق العربي تجربة تستحق التأمل والتحليل.

الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني

spot_img