spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

الدولة العربية والهوية الوطنية: الحالة المصرية

كثيرًا ما يقال إن مصر هي البلاد العربية الوحيدة التي قامت فيها دولة وطنية ممتدة منذ آلاف السنين، في حدودها الحالية تقريبًا، رغم انضمامها في مراحل عديدة إلى إمبراطوريات إقليمية هيمنت على المنطقة.

هذه المقولة تشكل أحد مرتكزات النزعة الوطنية المصرية، التي يمكن ربطها بمشروعين تاريخيين كبيرين غيرا مسار المجتمع المصري الحديث: حملة نابليون بونابرت التي مكنت من السيطرة الفرنسية على الإقليم في سنة 1798، وقيام دولة محمد علي باشا الذي حكم مصر من سنة 1805 إلى سنة 1848.

كانت حملة نابليون صدمة كبرى في المجتمع المصري المملوكي، وقد وضعت أسس التحديث الفكري والاجتماعي في مصر، من منظور القائد الفرنسي الذي أصبح من بعد إمبراطورًا يهيمن على جل أوروبا. ومن المعروف أن بونابرت من دعاة حركية التنوير، ومن ثم حرصه خلال حملته المصرية على التبشير بأفكار وقيم الأنوار التي بلورتها الثورة الفرنسية.

لقد طرح بونابرت فكرة الهوية المصرية المستقلة عن الشرق، والمستندة إلى الإرث الفرعوني، وأنشأ لهذا الغرض المجمع العلمي المصري الذي كانت ثمرة نشاطه موسوعة “وصف مصر” من 23 مجلدًا تناولت مختلف أوجه الحضارة المصرية. وفق شهادة المؤرخ المعروف عبد الرحمن الجبرتي الذي عاصر الحملة الفرنسية وكتب عنها في كتابه “عجائب الآثار”، يظهر أن مشروع نابليون كان يهدف أساسًا إلى تصدير النموذج التنويري الحداثي إلى مصر، ولم تكن له خلفيات صليبية دينية ومن هنا حماس جانب كبيرة من النخب الأزهرية له.

ومع أن الحملة الفرنسية لم تتجاوز أربع سنوات، إلا أنها كرست لأول مرة فكرة الهوية الوطنية المصرية بالمنظور التاريخي الطويل الذي يمتد إلى الجذور الفرعونية وبالمعنى الاستراتيجي الإقليمي المؤسس على الانتماء المتوسطي المشترك مع جنوب وغرب أوروبا. ولقد أنجزت تحولات نوعية في هذا الاتجاه، عن اكتشاف العالم الفرنسي جيان فرانسوا شامبليون الرموز الهيروغليفية سنة 1822 إثر اكتشاف أحد جنود نابليون “حجر رشيد” عام 1799. مع اكتشاف لغة الحضارة الفرعونية ونشر الأعمال الموسوعية العميقة حول التاريخ المصري القديم، تشكلت بقوة نزعة وطنية منادية بالاستقلال والانفصال عن العالم المشرقي الذي كانت تسيطر عليه الدولة العثمانية.

ومع أن محمد علي باشا دخل مصر واليًا عثمانيًّا، إلا أنه يعتبر بالفعل مؤسس أول دولة مصرية حديثة، بتركيبتها البيروقراطية الإدارية واقتصادها الصناعي الجديد، ونظمها التربوية والتعليمية المستوردة من أوروبا الحديثة. ورغم فشل محاولة انفصاله الكلي عن الأستانة، ورغم مغامراته في الشام والجزيرة العربية، إلا أنه كان يصدر بالفعل في توجهاته عن النزعة الوطنية المصرية.

وقد كرس حفيده الخديوي إسماعيل باشا الذي حكم مصر من 1863 إلى 1879 هذا الخط الوطني التحديثي، من خلال مشاريع تأسيسية كبرى مثل استكمال شق قناة السويس، وقيام أول مجلس نيابي منتخب في تاريخ الدولة، وإنشاء المدارس العليا المتخصصة ودور الثقافة والفنون وصدور الصحف والمنشورات المطبوعة.

احتلت بريطانيا مصر سنة 1882، وسيطرت على البلاد بعد هزيمة ثورة أحمد عرابي التي كانت بداية نشأة الحركة الوطنية المصرية الحديثة. وفي سنة 1914 تم إعلان الحماية البريطانية على مصر مع إنهاء السيادة العثمانية عليها، فقامت ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول وأفضت إلى قيام حزب الوطنية المصرية الأبرز “حزب الوفد” الذي تنحدر منه أبرز قيادات العمل السياسي قبل حركة 23 يوليو 1952 مثل مكرم عبيد، ومصطفى النحاس، وفؤاد سراج الدين وغيرهم.

ومع أن مشارب وتوجهات الحركة الوطنية المصرية الحديثة متعددة، إلا أنها تمحورت حول ثلاث أفكار مؤسسة جامعة هي:

1.     الخصوصية المصرية في الإطار الإقليمي، المستندة إلى مركزية المجال النيلي بمقوماته الجغرافية والبشرية الخاصة، رغم الطرق الشائكة للهلال الخصيب والبحر الأحمر نحو الشرق العربي.

2.     التاريخية الطويلة الممتدة من العصر الفرعوني، بما تكرسه من هوية متصلة في الزمان والمكان، تتجاوز الاختلافات الدينية والطبقية العرضية.

3.     التوجهات الحداثية المتولدة عن مسار النهضة المصرية الشاملة، وفق نموذج التقدم الأوروبي، رغم النزعة الاستقلالية في مواجهة الهيمنة الاستعمارية.

ولئن كانت هذه الأفكار الثلاث ثوابت مرجعية تلتقي حولها مختلف التيارات التي تشكلت منها النزعة الوطنية المصرية، إلا أن اتجاهين متمايزين برزا من داخل النزعة الوطنية المصرية:

1.     الاتجاه العلماني الذي يتبنى فكرة الهوية المتوسطية لمصر بما يعيدها لجذورها الفرعونية، ويفصلها جذريًّا عن محيطها العربي الشرقي، ويقربها لأوروبا. نلمس هذا الخط لدى طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، وسلامة موسى في كتابه “مصر أصل الحضارة ” وجرجي زيدان الذي كتب عن تاريخ مصر الحديث. وقد عبرت الأعمال الأدبية لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ عن جوانب من هذه النزعة.

2.     الاتجاه النهضوي الإصلاحي الذي ظل وفيًا لأفكار الإمام محمد عبده في النهوض الديني والفكري والإصلاح الاجتماعي، مع التشبث بالهوية الوطنية المصرية. ومن أبرز رموزه أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل ومصطفى عبد الرازق.

هل كانت الحركة الناصرية قطيعة مع هذه النزعة الوطنية الليبرالية المصرية التي تجسدت في مؤسسات منتخبة وحياة حزبية نشطة في ظل النظام الملكي؟

لا يزال الجواب على هذا السؤال مدار جدل واسع، بين من يعتقد أن حركة 23 يوليو 1952 عبرت عن جوهر النزعة الاستقلالية المصرية وجسدتها في إصلاحات اجتماعية عميقة أعادت للمصري كرامته ومنحته حقوقه الأساسية، ومن يراها انتكاسة عن النزعة الوطنية المصرية الحقيقية من منظور قومي عروبي جديد على الفكر المصري الحديث.

لقد ذهب المفكرون الذين دافعوا عن التجربة المصرية، بما فيهم الكتاب اليساريون غير القوميين (أنور عبد الملك، وغالي شكري ولطفي الخولي، وغيرهم)، إلى أن جمال عبد الناصر منح الوطنية المصرية البعد الإقليمي الذي يجسد مكانة ودور مصر في محيطها الشرق أوسطي، كما منحها مقوماتها الاجتماعية بتوسيع دائرتها إلى القاعدة الشعبية العريضة في حين كانت نزعة نخبوية ضيقة.

ما يعكسه هذا النقاش هو ما عبر جمال حمدان في كتابه الموسوعي “شخصية مصر” بجدلية الموضع والموقع التي تشكل عمق الهوية المصرية في محليتها الخصوصية الراسخة وانفتاحها الإقليمي الضروري الذي هو أساس دورها المحوري في محيطها العربي.

الدكتور: السيد ولد أباه/ مفكر موريتاني

spot_img