تحل الأسبوع القادم الذكرى الأولى لاندلاع الحرب الأوكرانية التي تركت أثرَها المكين على تركيبة العلاقات الدولية، وتجاوز وقْعُها مسرحَ الصدام الأصلي. ومع أنه من التسرع الحديث عن حرب عالمية ثالثة أو عودة الحرب الباردة والاستقطاب الدولي السابق، فمما لا شك فيه أن هذا النزاع ولَّد إشكالاتٍ جيوسياسيةً جوهريةً في ما وراء الصراع الروسي الأوكراني.
صحيح أن للحرب خلفيةً مباشرةً تتلخص في الهجوم الروسي على سيادة أوكرانيا الإقليمية المعترف بها دولياً، لكن مفتاحها الأساسي يتعلق بالمعادلة التي أطلق عليها المفكر السياسي الأميركي جون ميرشمر عبارةَ «الهيمنة الليبرالية» liberal hegemony. في كتابه المهم «الوهم الكبير.. الأحلام الليبرالية والحقائق الدولية» (صدر بالإنجليزية عام 2018)، يفسر ميرشمر مقولةَ «الهيمنة الليبرالية» باستراتيجية تغيير نمط حكم الدول واستبدال أنظمتها، بحيث تتحول إلى أحكام ديمقراطية بمؤسسات حرة واقتصاد مفتوح.
إن هذه الفكرة متجذرة في العقل السياسي الأميركي الذي ينطلق من مصادرة التطور الإنساني الطبيعي نحو الحرية من حيث هو مظهر من مظاهر تقدم الإنسان العقلي والخلُقي، بما يفرض العملَ على تمديد النموذج الليبرالي في العالَم كله، من منطلق التصور الكوني للديمقراطية والنظر إليها كشرط لقيام السلم العالمي. إن الأنظمة الليبرالية هي أكثر الأنظمة ميلا إلى العنف والعدوانية لكونها تنطلق من مبادئ إنسانية مجردة ومطلقة تفضي ضرورةً إلى التدخل النشط لحماية الحريات وحقوق الإنسان. إنها تبالغ في ادعاء القدرة على تصدير الحرية والديمقراطية وتفعيل مسلك الهندسة السياسية والاجتماعية في بناء الدول وضبط أنظمة الحكم.
بيد أن ميرشمر يرى أن القِوى الدوليةَ الكبرى نادراً ما تكون في وضع يسمح لها باعتماد سياسة خارجية ليبرالية على نطاق واسع، ولذا فلا بد لها أن تراعي موازين القوة التي هي المحدد الحقيقي للعلاقات الدولية. ومن هنا ندرك اليوم البونَ الشاسعَ بين الخطاب الليبرالي المعلن والاتجاه العملي الواقعي الذي هو مرتكز المواقف الديبلوماسية لأكثر الأنظمة ليبراليةً.
وكما يوضح ميرشمر، فإنه عادةً ما تتعارض الليبرالية مع النزعتين القومية والواقعية، فتَفشل في طموحها الكوني، باعتبار أن الدول الحديثة هي في حقيقتها كيانات قومية تمنح الأولويةَ لمعايير الهوية الخصوصية والسيادة الوطنية، كما أن الطابع المتوحش والفوضوي للعلاقات الدولية يفرض التقيدَ بمنطق التكيف الممكن والمتاح مع إكراهات الواقع. وهكذا يظهر أن الهيمنةَ الليبراليةَ بدل أن تؤدي إلى تمديد الأمن والسلم في العالم من خلال نشر قيم الحرية والديمقراطية، تفضي إلى تأجيج الصراعات الدولية وإلى تفجير العنف والفتن عالمياً.
لم ينفك ميرشمر بعد اندلاع الحرب الأوكرانية الأخيرة يبين أن الولايات المتحدة الأميركية والقطب الغربي إجمالا هو المسؤول عن تفجير النزاع الحالي بانتهاكه التوازنات الجيوسياسية التي نجمت عن نهاية الحرب الباردة، عبر تمديد المظلة الأوروبية والأطلسية إلى المجال الحيوي المباشر لروسيا.
ما نشهده راهناً هو بالفعل التعارض بين الحقوق المجردة المطلقة للدول في استخدام قرارها السيادي الحر في بناء شراكاتها الخارجية ضمن التطلعات التي توفرها المنظومة الليبرالية العالمية ومحددات التوازن الاستراتيجي الدولي التي تفرض الإقرار لروسيا بمصالحها الحيوية في نطاقها الجيوسياسي الذي تنتمي إليه أوكرانيا.
فالدول الغربية التي وقفت بالسلاح والدعم السياسي مع الحكومة الأوكرانية غلَّبت منطق الحلف الليبرالي «الطبيعي» على منطق توازن القوة الاستراتيجي، بما يفسر اليوم تَعقّد الصراع الدولي الجديد وتشابك معطياته ورهاناته. ما نلمسه راهناً هو بروز أنماط جديدة من التوجهات الاستراتيجية تَخرج عن ضوابط ومعايير المدارس الجيوسياسية التقليدية، من نزعات واقعية ومثالية وانعزالية.
وفي مقابل النزعة الواقعية التقليدية التي تتسم بالانكفاء والسلبية، ظهر مفهوم «الواقعية الدفاعية» الذي بلوره ميرشمر للتعامل مع الفوضى الدولية التي تفرض سياسة القوة والتدخل عند الضرورة لحماية المصالح القومية، وقد تفرض اللجوء الاستباقي للعنف في حال كانت مكاسبه مضمونةً وفعالةً.وفي مقابل المثالية الليبرالية التقليدية التي تربط بين طبيعة النظام السياسي والسياسة الخارجية للدولة، بيّنت حروب تغيير الأنظمة وإعادة بناء الدول وهمَ «الاستراتيجيات الرسالية والتحويلية» في إدارة الملفات الدولية الساخنة.
أما الانعزالية الكلاسيكية (على منوال مذهب مونرو الشهير) فلم تعد خياراً متاحاً في عالم مترابط الحلقات، موحد المصير، ومن هنا تبلور خيار «التدخل الانتقائي» مسلكاً متّبعاً من أغلب القوى الدولية المؤثرة. ما نلمسه من هذا الاستعراض للتحولات النظرية في الفكر الاستراتيجي العالمي، هو أن الحرب الأوكرانية قد فرضت إعادة تصور وبناء السياسة الخارجية للدول الكبرى، وما نشهده حالياً هو المحطة الأولى من هذا المسار.
الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني