في مقال بالعدد قبل الأخير من مجلة «فورين آفيرز» الأميركية، يحيلنا تشارلز كينغ، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جورج تاون، إلى أطروحة عالم الاقتصاد الشهير «وولت روستو» في التحديث الاجتماعي التي اعتبر أنها تشكل دوماً نقطةَ الإجماع في التفكير السياسي الأميركي.روستو بالنسبة للذين لا يعرفونه هو مفكر أميركي معروف من أصول روسية، كان مقرباً من ثلاثة رؤساء هم ايزنهاور وكندي وجونسون وقد توفي سنة 2003. أهم كتب روستو كتابه «مراحل النمو الاقتصادي» الصادر سنة 1960، وقد أراده حسب عنوانه الفرعي «ميثاقاً غير شيوعي» يقدم فيه مقاربة للتحديث مختلفة كلياً عن قوانين التاريخ الماركسية.
ووفق هذه النظرية، تخضع المجتمعات الإنسانية لمسار تطوري على مراحل خمسة هي: المجتمع التقليدي الذي يقوم على استغلال الأرض ويرفض التقدم ويحافظ على النظام التراتبي التمييزي، ثم تبرز الشروط القبلية للإقلاع حيث يغدو المجتمع متقبلا للتغيير وتزداد فيه نسب الإنتاج والتراكم وتتحسن فيه الموارد البشرية.
وبعد هذه المرحلة يمر المجتمع إلى الإقلاع من خلال المسار التصنيعي السريع وما يفضي إليه من تحولات سياسية اجتماعية نوعية، ثم يبلغ مرحلة النضج، قبل أن يدخل المجتمع في حقبة الاستهلاك الكثيف التي هي وضعية البلدان الصناعية الليبرالية المتقدمة. كان روستو يعتبر أن رسالة السياسة الخارجية الأميركية يجب أن تكون تشجيع بلدان العالم الثالث على السير في طريق التحديث الغربي الناجع، بدلاً من الانسياق مع النموذج الشيوعي الذي اتسم ببريقه النظري وقوة مقاربته التحديثية رغم فشلها العملي.
وقد راهن على انتشار نمط الاقتصاد الاستهلاكي في العالم من أجل انتشار وتمدد المصالح والقيم الغربية التي هي التجسيد الفعلي لمسار التحديث الصناعي الليبرالي. ذهب كينغ إلى أن أطروحة روستو لا تزال اليوم صالحة لمواجهة الأنماط الجديدة من الأطروحات المنافسة مثل الرأسمالية المركزية في الصين والثورة الحضارية المضادة في روسيا وبعض بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، ونظام الأوليغارشيا الراعية لدى شخصيات صاعدة من نوع إلون ماسك. ومع أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد سار على عكس «إجماع واشنطن»، فإن كينغ يرى أنه لحظة عابرة في التاريخ السياسي الأميركي الذي ينطبع في جوهره بنظرية التحديث الصناعي الليبرالي الغربي.
ليس من همنا هنا المناقشة المفصلة لأطروحة روستو وصياغتها الراهنة لدى كينغ، بل حسبنا الإشارة إلى أنها تندرج في سياق المقاربات السوسيولوجية التاريخية التي حاولت بناء نظرية ليبرالية في التحديث، وأشهرها بطبيعة الحال نظرية العقلنة والشرعية لدى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. المشكل الحالي الذي تطرحه نظرية روستو يتعلق بطبيعة التداخل الإشكالي بين المنابع الثلاثة للتحديث الليبرالي، وهي: قيم التنوير الإنسانية، والنظام السياسي المدني الحر، والرأسمالية الصناعية الفردية.وما ظهر منذ الكتابات الفلسفية والاجتماعية في القرن التاسع عشر هو أن العلاقة بين هذه المكونات الثلاث ليست بديهية ولا تخضع لقوانين تاريخية مطلقة.
ففي بعض السياقات لم تفض أفكار التنوير في بدايتها إلى بناء منظومة ليبرالية حرة بنسق ديمقراطي تعددي (كما هي حالة ألمانيا التي كانت سباقة في فلسفة الأنوار)، وفي سياقات أخرى نجحت تجربة الإقلاع الصناعي الرأسمالي دون أفق تنويري أو ليبرالي (كما هو حال الصين الراهنة). وفي روسيا الحالية، برزت اتجاهات فكرية واسعة تدافع عن مسار التحديث ضمن ثوابت التقليد من حفاظ على القيم الاجتماعية التقليدية والمؤسسة الأسرية الأهلية والكنيسة القومية.
وفي الصين، ظهرت مدرسة فلسفية كاملة تقدم مقاربة بديلة للتحديث الغربي من منظور رؤية العالم الكونفوشيوسية التي تنطلق من فهم خاص للزمنية والوجود والإنسانية الفردية وإن كانت قادرة على الوصول إلى نفس المستوى من التطور الصناعي والتقني الذي وصل إليه الغرب. لقد تردد فيبر في نظريته في التحديث الليبرالي بين إرجاع قيم العقلنة الطبيعية والاجتماعية للمسيحية أو للإصلاح الديني والتنوير الإنساني، وفي هذا التردد دليل على الإشكالات المعقدة التي يطرحها مسار التحديث في زمنيته الطويلة وحركيته التاريخية القريبة.
إن هذه الثغرة التي تعاني منها نظريات التحديث الليبرالية توجه رؤيتنا في الوضع الحاضر إلى سؤال الأرضية الثقافية للتحديث في ما وراء قانون التطور التاريخي الذي يحكم هذا المسار. ومن هنا يبدو السؤال الأهم هو: كيف يمكن ضبط محددات وأدوات التحديث الثقافي الذي هو الشرط الموضوعي للتحديث الصناعي والليبرالي؟