خصص الفيلسوف الفرنسي “بول ريكور” مكأنة خاصة للإشكالية التاريخية في أعماله الغزيرة من منطلقات ومداخل متباينة، تتمحور حول المقوم الرئيس في مشروعه الفلسفي الذي أطلق عليه “أنثروبولوجيا فلسفية”1” للأنسأن من حيث هو كائن “قادر” وفاعل (الإمكأنات التي تنبع من ديناميكية الرغبة في الوجود).
وإذا كأن ريكور ينتمي للتقليد الأنسأني التأملي reflexif الفرنسي العريق، إلا أنه في تصوره الفلسفي للذات يرفض بشدة المنظور الديكارتي لوعي شفاف ومباشر بقدر ما يرفض النزعة التقويضية للذات التي هيمنت على الفلسفات البنيوية والتفكيكية الفرنسية (التوسير وفوكو ودريدا…).
ليست الذات بالنسبة لريكور مرادفة للأنا le moi أو العين le meme، بل أن مسلك الوصول إلى الذات يمر بمسارات والتواءات عديدة ومتنوعة، يؤدي فيها الغير دورا محوريا (الوجه المقابل والهيكل الجماعي). يتعلق الأمر هنا بمسارات القدرة الأنسأنية؛ أي مجموع ما يمكن أن يفعله الأنسأن بصفته ذاتا نشطة، وهي قدرات تتركز في كفاءات أربع هي: الخطاب والممارسة والسرد والمسؤولية الأخلاقية”2″
وهكذا يتضح أن علاقة الذات بنفسها تمر بوسائط عديدة في علاقتها بنفسها وبالغير وبالمؤسسة، كما أنها تأخذ مسالك تأويلية عبر النص المقروء الذي يكشف عن عالم كامل مستقل عن مؤلف وعن ظروف صياغته ومجال تلقيه.
في هذا السياق يدخل البعد التاريخي في اتجاهين: مسار تشكل الهوية الذاتية في بعدها السردي، والمسار التأويلي المرتبط بالذاكرة من المنظورين الإبستمولوجي المتعلق بالمنزلة المعرفية للكتابة التاريخية والعملي الإتيقي المتعلق بسياسات وأخلاقيات تدبير الذاكرة التي تغطي جأنبا أساسيا في فلسفة ريكور السياسية والقأنونية.
أولاً: الهوية السردية
ظهر مفهوم “الهوية السردية” identite narrativeلأول مرة في خاتمة كتاب ريكور “الزمن والسرد” (1985) في إطار التفكير في علاقة التاريخ بالمتخيل، بحثا عن سياق عملي يلتقي فيه الصنفأن السرديأن. الهوية هنا ينظر إليها “كمقولة للممارسة”؛ بمعنى أن تحديد هوية الفرد أو المجموعة يتوقف على الجواب على سؤال: من فعل ذلك الفعل ومن هو الفاعل؟
وحدة الذات الفاعلة؛ أي استمراريتها وثباتها، رغم التحول لا يمكن أن تفهم إلا بالمعنى السردي، فسؤال الهوية يرتد عندئذ إلى عملية سردية لمسار الذات، وبدون هذا البعد السردي لا سبيل للخروج من مأزق الهوية الشخصية التي إما أن نفهمها بصفتها ذاتا متماهية مع نفسها في أحوالها المتغيرة أو باعتبارها وهما جوهرأنيا، يطلق على كتلة متغيرة مختلفة من النوازع والغرائز.
سؤال الهوية يتصل إذن بالممارسة السردية من وجهين متلازمين: الأنسأن الذي يكشف عن هويته من خلال ما يحكي عن حياته والقصص المروية من حيث هي أجناس سردية تتمحور حول الكتابة التاريخية والإبداع المتخيل، الذات التي تصنع التاريخ، أي تخرج إلى دائرة الفعل المتحول، ولا يمكنها في الأن نفسه أن تكون فاعلة في التاريخ دون روايته وسرده.”3”
سيسعى ريكور في كتابه المحوري “الذات عينها وكأنها أخر(1990) إلى بسط نموذج الهوية السردية بتجاوز البعد الضيق الخاص بالهوية في مسار تشكلها الزمني (كما في كتاب الزمن والسرد) لتحويل المقولة إلى مرتكز نظريته المكتملة في الذاتية.
إذا كان مفهوم الهوية السردية في الكتاب الأول قد تبلور في سياق تفكير ريكور في الأجناس الأدبية والتاريخية التي تصوغ حبكة سردية للشخصية من حيث بعد الحكاية المحدد لهوية الفرد أو المجموعة، فإن المفهوم في العمل الأخير يندرج في صلب أنثربولوجيا الإنسان القادر التي يشكل البعد السردي (الذات بصفتها مؤهلة للحكاية) فيها مقوما جوهريا إلى جانب القدرات الأخرى المتعلقة بالخطاب والممارسة والمسؤولية القيمية.”4”
من هذا المنطلق، يقف ريكور عند التمييز العام بين مفهومين للهوية، هما الهوية في دلالتها الشيئية الجامدة؛ أي الهوية “العينية” memete والهوية الذاتية ipseite بدلالتها الحركية المرنة.
يتحدد الاختلاف بين المقاربتين بحسب معيار “الاستمرارية في الزمن” الذي يشكل إطارا إشكاليا خصبا للتفكير في الأبعاد الثابتة والديناميكية للهوية.
الطابع الثابت للهوية، يبدو أوضح في الهوية العينية التي تحيل لمعنى الوحدة والتجانس والتشابه الأقصى بالمعنيين الكمي والكيفي، والاستمرارية المتصلة دون انقطاع بين المحطة الأولى والمحطة الأخيرة في مسار نفس الفرد، مما يفضي إلى تعيين الهوية من حيث هي عنصر لا متغير (جوهر أو ماهية)، وهذا العنصر هو الذي يمنحها دلالة الاستمرارية الدائمة عبر الزمن.
الاستمرارية بهذا المعنى هي استمرارية “الطبع” le caractere الذي هي مجموع السمات المميزة للفرد من حيث هو عين الفرد (استمرارية تشبث الذات في الحفاظ على نفسها). وإذا كان ريكور في أعماله الفينمونولوجية الأولى قد تناول مفهوم “الطبع” ضمن دراسته التحليلية للإرادة البشرية ولإشكالية الخطأ والمسؤولية، فتأرجح في النظر إليه ما بين ثنائية الإرادي وغير الإرادي (عرفه بكونه العمل غير الإرادي المطلق) وثنائية التناهي واللا تناهي (الطبع هنا هو طابع الانفتاح المتناهي في الوجود البشري)، فإنه في تحليلية الذات عالجه في ثنائية جديدة هي ثنائية الهوية العينية والهوية الذاتية، حيث يكون في مقابل “الوعد” la promesse؛ أي اللفظ المتضمن وعدا.
الطبع هو حسب التعريف الأخير “مجموع الاستعدادات الدائمة التي من خلالها نتعرف على شخص ما”5”. وهكذا يمكن من خلال هذا التحديد تمييز الهوية العينية عن الهوية الذاتية.
الاستعدادات الدائمة هنا تحيل إلى التقاليد والعادات التي تعبر عن تاريخية جامدة نافية للجديد، كما تحيل إلى “أشكال التماهي المكتسبة” identifications acquises؛ أي مجموع القيم والمثل والنماذج والأبطال التي من خلالها يتعرف الشخص على نفسه أو المجموعة على نفسها. في الحالتين نظهر سمات هوية الطبع بصفتها تتعلق بسؤال “ما هو الذات” وليس بسؤال “من هو الذات”، أو بعبارة أخرى إرجاع سؤال “من” إلى سؤال “ما هو”.”6″
بيد أن ريكور يبين أن قطب الطبع على جموده وثباته له تاريخيته الخاصة التي هي تاريخية “مطوية” قابلة لأن تأخذ سمة سردية تبرز الجوانب الحركية المتحولة التي تم تقليصها.
في مقابل هوية الطبع تكشف هوية الوعد عن أفق اخر للاستمرارية الزمنية هو أفق اللفظ الموجه للغير الذي يجسد شكلا من “الحفاظ على الذات” مختلفا عن هوية “الما هو”؛ أي الشيء العام، يندرج في بعد “من هو”.
الفرق هنا هو بين التمسك بالطبع والتمسك بالوعد الملفوظ، بين استمرارية الطبع واستمرارية الصداقة. “7”
ومن الواضح أن ريكور – كما يقر بنفسه- يوظف هنا مفهوم “الحفاظ على الذات” الذي بلوره هايدغر في إطار تمييزه بين استمرارية الدازين (أي الإنسان في علاقته بالوجود) واستمرارية الشيء الطبيعي. بيد أنما يميز أطروحة ريكور هي البعد الخطابي في استمرارية الذات؛ أي قابلية الإنسان للقول التي هي في الآن نفسه قابليته لتقديم الوعد. “8”
لا بد بالنسبة لريكور من الجمع بين عينية الطبع وهوية الوعد في جدلية التشكل الأنطولوجي للإنسان المؤهل للفعل الأخلاقي، باعتبار أن الجواب على سؤال “من أنا” يتوقف على سؤال “ما هو أنا؟” والعكس صحيح، فلا سبيل لمحو أحد القطبين لصالح الآخر؛ فكلاهما يقتضي الآخر دون صياغة تأليفية.
وهكذا ينبثق مفهوم “الهوية السردية”، باعتباره إطار الوساطة (غير المكتملة وغير الرافعة للتعارض) بين بعدي الذاتية المتمايزين.
السرد يجمع بين الاستمرارية والتغيير؛ أي تنوع الوقائع والأحداث المشتتة والفعل التأليفي التنسيقي الجامع الذي أطلق عليه “تأليفية المتنوع”. الشخص هنا هو شخصية “محكية”؛ بمعنى أنها موضوعة في حبكة سردية تجسد هذه العلاقة الجدلية بين الهوية العينية والهوية الذاتية. “9” لا معنى لهوية الشخص دون هذا التأليف “المتناغم – المتناثر” بين الأحداث التي تشكل وحدة مساره الذاتي، فإذا كان الفرد كائنا متجانسا محضا تحول إلى نمط من الجوهر الثابت الذي لا يمكن أن يحدث له شيء، وإذا كان في المقابل مجرد أحداث مشتتة غاب مبدأ المعقولية الذي يسمح بمعرفته والتعرف عليه.
الهوية السردية إذن، تحقق الهدفين المزدوجين في مسار تشكل هوية الذات الاستمرارية في الزمن بحسب محددات الطبع والاستمرارية من خلال الحفاظ على الذات. “10”
يؤكد ريكور هنا على دور الوساطة السردية في تكون الذات، باعتبار أن الوظيفتين الخطابية والعملية لا تكفيان في إبراز الهوية الذاتية في بعدها التاريخي.
وإذا كانت استمرارية الذات في الزمن محددة بالوفاء للعهد، ومن ثم فإن الهوية هي بهذا المعنى مسؤولية الفرد عن أعماله، فإن مقولة الحفاظ على النفس (التي تذكر بالكوناتيس السبينوزي) هي بالأساس مقولة إتيقية.
هكذا تتبين هنا الدلالة الإتيقية للهوية السردية من حيث كونها تربط بين نظرية الفعل والنظرية الأخلاقية؛ فالوظيفة السردية من جهة تؤدي إلى “توسيع المجال العملي”، ومن جهة أخرى تشكل “مختبرا للفعل الأخلاقي”. “11”
ثانيا: الذاكرة والتاريخ
تتأرجح فلسفة الزمن لدى ريكور بين قطبين؛ هما الذاكرة والتاريخ يحيلان لتجربتين مغايرتين: الزمن بصفته خاصية من خصائص الطبيعة (مبدأ حركة الأشياء حسب الاصطلاح الأرسطي) و”زمن النفس” بلغة القديس أوغسطينوس؛ أي الزمن المعيش الوجودي الذي تستكشفه الفينمونولوجيا. زمن التاريخ زمن كوسمولوجي معياره الحقيقة الموضوعية ومعيار الزمن النفسي هو “الوفاء” ضمن معادلة الاعتراف التي تتوقف عليها نتائج عملية تتعلق بهوية الفرد والمجموعة ومشاريعهما المستقبلية.
عالج ريكور الزمن التاريخي في كتابه “الزمن والسرد” بمجلداته الثلاثة (صدر 1983-1985) من منظور إشكالية السرد بالتساؤل: إلى أي حد يمكن اعتبار التاريخ صنفا سرديا؟
يقف ريكور في تصوره للتاريخ ضد اتجاهين غالبين على الفكر التاريخي؛ اتجاه فلسفة التاريخ بالمنظور الهيغلي (السردية الكلية؛ أي الصياغة التأليفية المكتملة لحركة العقل عبر التاريخ انطلاقا من القول إن هدف الفلسفة هو ضبط معنى التاريخ من حيث هو مطلق)؛ واتجاه التاريخيات البنيوية غير الحدثية (مدرسة الحوليات… ).
في مقابل هاتين المقاربتين، يركز ريكور على البعد السردي في الكتابة التاريخية الذي يجعل من التاريخ رديفا للأدب في تسجيل الماضي وروايته (الحياة معيشة والتاريخ مروي).
في هذا السياق، يستخدم ريكور مفهوم “الحبكة “intrigue” “12” للتعبير عن هذا الجانب السردي في الكتابة التاريخية، ذلك “أن الزمن لا يكون بشريا إلا عندما يضبط بطريقة سردية”. “13”
العملية السردية في الكتابة التاريخية تتم من خلال محورين هما: “التشكيل” la configuration المتعلق بالإجراءات السردية التي تتم داخل النص من خلال حبكة ترتيب الرواية في أشخاصها وأحداثه، و”إعادة التشكيل” refiguration التي هي أثر الرواية على التجربة المعيشة الحية.
يستخدم هنا ريكور اصطلاحات بلورها في نظريته التأويلية للأجناس السردية، حيث انبثق مفهوم “الحبكة التاريخية “14” ، كما أن ثنائية التشكيل وإعادة التشكيل قد طرحها في دراسته المبتكرة للاستعارة من حيث هي إعادة وصف للواقع وعملية إبداع لفضاء دلالي متسع “15”، مما يعني أن المؤرخ يستخدم في معالجته للماضي نفس الوظيفة التخيلية لضبط العالم المروي. ولذا، لا يرى ريكور مانعا من القول إن التاريخ “يحاكي” في كتابته الأشكال السردية المألوفة في التقليد الأدبي، حيث تتداخل أحيانا بقوة الأعمال الروائية الإبداعية والكتابات التاريخية الرصينة. “16”
الا أن ريكور لا ينفي مقولة الحقيقة التاريخية التي تميز السردية التاريخية عن العمل الأدبي. يختلف النصان الأدبي والتاريخي في طبيعة العقد القائم بين المؤلف والقارئ؛ ففي العمل الأدبي يقبل القارئ مسبقا تصرف المؤلف في تشكيل الواقع المتخيل، في حين يتوقع القارئ من المؤرخ سرد أحداث تمت بالفعل في الماضي.
بيد أن المؤرخ لا يمكن أن يصل إلى “موضوعية” العالم الطبيعي، كما أنه لا يمكن أن يتخلص من ذاتيته التي تظل حاضرة بقوة في سرديته من حيث كون الكتابة التاريخية هي ضرب من تأكيد الانتماء وانفتاح وتواصل مع الغير عبر قناة الماضي، إلا أن “النزوع المنهجي” للمؤرخ يحول ذاتيته إلى “ذاتية تأملية” REFLEXIVE رصينة تتحرى الدقة والموضوعية وتوقعات القارئ.[17]
يتعلق الأمر هنا بالجوانب الإبستمولوجية في العمل التاريخي من حيث مقصد الحقيقة المميز له، حتى ولو كانت حقيقة ممتزجة بالتخيل والمعيش ولا معنى لمقارنتها بموضوعية العلوم التجريبية.
في مقابل بعد التاريخ المتعلق بالزمن السردي، سيتناول ريكور بعد الذاكرة في أحد كتبه الأخيرة “الذاكرة، التاريخ، والنسيان” (2000) من منطلق أن الذاكرة هي الحلقة المفقودة بين الزمن والسرد.
في الكتاب، يستكشف المؤلف هوية النسيان التي تولد إشكالات عصية تفصل منهجيا بين الذاكرة والتخيل، وبين القصة التي قد تكون حدثت والواقع الفعلي الذي حدث، الذاكرة التي تفضي إلى نتيجة قابلة للتمثل والتعرف وتلك التي لا تفضي إلى مثل تلك النتيجة.
يقف ريكور في الكتاب حول موضوع استحضار الماضي؛ أي لغز الصورة الحاضرة التي تدعي تقديم موضوع غائب سابق، فيستخدم في مقاربته الفلسفية للذاكرة منهجا ثلاثيا: التحليل الفينمونولوجي وإبستمولوجيا العلوم التاريخية وتأويلية الظرفية التاريخية.
في التحليلية الفينمونولوجية، يتعرض ريكور لموضوع التذكر le souvenir من حيث العلاقة بين الواقع والوهم، مميزا باستخدام مصطلحات أفلاطونية – أرسطية بين “الذاكرة الحيوية” mneme السلبية التي لا أثر للإرادة فيها و”الذاكرة الفاعلة” anamesis التي هي نمط من الفعل الإرادي اليقظ ضد النسيان.
وهكذا يبدو الفرق بين الخيال والذاكرة (اللذين ربط ريكور عضويا بينهما في أعماله الأولى) من حيث كونهما وإن اتفقا في إشكالية حضور الغائب، إلا أن الذاكرة تتميز بكونها تحيل إلى مرجعية واقعية سابقة هي بمعنى ما ضمانة استمراريتها. إن هذا الاستقصاء للحقيقة هو الذي يميز الذاكرة “كعظمة معرفية”[18]، وهو ما يطلق عليه مصطلح “الوفاء” fidelite، حتى ولو كان لا بد من الإقرار بما يطبع الذاكرة من هشاشة بنيوية تطرح إشكالية صدقيتها. في هذا السياق يطرح ريكور مفهوم “حق الذاكرة” devoir de memoire الذي ارتبط في العقود الأخيرة بملفات العدالة والعدالة الانتقالية، معتبرا أنه يدخل في باب “الذاكرة الملزمة” memoire obligee التي تختلف عن صنفين آخرين من الذاكرة، هما “الذاكرة الممنوعة” empechee التي تتعلق بمصاعب التذكر النفسية، و”الذاكرة الموجهة” manipulee العرضة لتأثيرات التعبئة الأيديولوجية.[19]
في المحور الإبستمولوجي، يقف ريكور عند علاقة التصادم والتزاحم بين النزوع للحقيقة في الممارسة التاريخية وبعد الوفاء في الذاكرة.
لا يتعلق الأمر هنا بالصلة بين المنظور الفنمونولوجي والمنظور الكوسمولوجي (الكوني)، وإنما الانتقال من الذاكرة الحية إلى الوضع الخارجي للحقيقة التاريخية.[20]
الحقيقة التاريخية من هذا المنطلق هي نتاج الجهد التوثيقي والشهادة المتأتية من الماضي، ولو كانت الهوة باقية بين الحدث التاريخي والحدث الحقيقي كما حفظته الذاكرة، باعتبار السمة التأويلية الملازمة للكتابة التاريخية في كل محطاتها. وإذا كان التاريخ بمعنى ما يطمح إلى أن يكون “الوريث العالم للذاكرة”؛ أي حصيلتها ومآلها في نزوعها للوفاء للماضي، إلا أنه لا يمكن أن يستغني عن العملية السردية بدلالتها المذكورة آنفا ولا يمكنه اختراق هوة النسيان في الحد بين الواقع والوهم.
في تأويلية الظرفية التاريخية، يبرز ريكور علاقة التداخل والترابط بين القراءة التاريخية للماضي والتوقعات المتطلبة في المستقبل، في هذا السياق يطرح ريكور مفهومه للعفو le pardon الذي يتعلق بإشكالية مقتضيات المسؤولية عن الخطأ ومقتضيات التصالح مع الماضي. ومن هنا ضرورة التمييز بين نوعين من النسيان الصورة السلبية الذي هو مصدر “القلق” (النسيان بمحو الأثر) والصورة الإيجابية (نسيان الاحتياط) الذي هو مصدر الرغبة والطمأنينة…
العفو يسمح بالتوسط في تدبير الذاكرة بين “الغلو في الذاكرة” و”المبالغة في النسيان” عبر مسار تحويل الشر الذي نخضع له إلى شر نتحكم فيه. صعوبة العفو تتأتى من كونه يندرج دوما في سياق أحداث تاريخية يتعين الاحتفاظ بها في الذاكرة، بيد أن الإنسان المعرض لفعل الشر هو نفسه القادر على العفو الذي يسمح له بالفصل بين الخطأ والإنسان الخاطئ. وهكذا يتجلى “لغز” العفو في هذه الدورة، حيث في الأسفل الخطأ وخطاب الاعتراف به، وفي الأعلى العفو.
العفو يبدو عندئذ بمثابة “الأفق المشترك” لاكتمال الذاكرة والتاريخ والنسيان، ولو كان بالضرورة عصيا، أقرب للمثال والنزوع المستمر.[21]
الحقيقة والوفاء هما حصيلة فلسفة الزمن لدى ريكور، وهما مفهومان يجمعان بين الأفق الابستمولوجي وفينمونولوجيا الحياة المعيشة والتجربة الحية، بقدر ما يجمعان بين الممارسة التأويلية النقدية والممارسة التأويلية المنتمية للتقليد والساعية لاستثمار آفاقه الخصبة دون الانجراف نحو القطيعة العدمية (الغلو في النسيان) او الانغلاق في سجن الذاكرة الجامدة… وذلك هو أيضا ما تعنيه مقولة الهوية السردية بدلالتها الأخلاقية والعملية المفتوحة على أفق المستقبل.
الدكتور السيد ولد أباه / مفكر موريتاني
المراجع:
[1] استخدم ريكور مفهوم “الأنثربولوجيا الفلسفية” في عدة نصوص:
Le conflit des interpretations, essais hermeneutique seuil 1969 p 261
Du texte a l’action, essais hermeneutique tome 2 seuil 1986 p 168
وقد جمعت بعض نصوصه في كتاب صدر بعد وفاته بعنوان:
Anthropologie philosophique, ecrits et conferences, 3 seuil 2013
[2] Paul Ricoeur: soi – meme comme un autre Seuil 1990 p 28
[3] Paul Ricoeur: temps et recit، 3 Seuil 1991 pp442-448
[4] Paul Ricoeur: critique et conviction. entretiens avec F.Azouvi et M.De Launay Calmann- Levy 1995 p 138
[5] Ricoeur: soi- meme comme un autre p146
[6] ibid p 147
[7] ibid p 148
[8] يستخدم هنا ريكور اصطلاحات معروفة لدى الفيلسوف الوجودي غابريال مارسل في تأكيده انتصار الوفاء على الزمن الذي هو التعبير عن قدرته الفاعلة وتحكمه في وجوده. الوعد هنا هو التعبير عن هذه الإرادة الفاعلة
Gabriel Marcel: Etre et avoir Aubier 1935 p 56
Jean De Dieu Moleka Liambi: la poetique de la liberte dans la reflexion ethique de Paul Ricoeur Harmattan 2006 p 127
[9] حول مفهوم “الحبكة السردية” راجع:
Paul Ricoeur: Temps et recit، tome1، seuil 1983 pp 55-84
[10] Ricoeur: soi-meme comme un autre p196
[11] ibid pp 193 -198
[12] قارن بمفهوم الحبكة لدى المؤرخ الفرنسي بول فاين الذي طور إحدى أهم النظريات في كتابة التاريخ؛ ويعني بالحبكة نسيج التاريخ الذي يختلط فيه الإنساني بالعلمي والأسباب المادية والغايات والصدف.
Paul Veyne:comment on ecrit l’histoire? Seuil 1971 pp 53-54
[13] Paul Ricoeur: temps et recit, tome 1 p 18
[14] Paul Ricoeur: Du texte a l’action seuil 1986 pp 14-18
[15] Paul Ricoeur: la metaphore vive Seuil 1975 pp 288-289
[16] Paul Ricoeur: Temps et recit, tome 3, seuil 1985 pp 337-338
[17] Paul Ricoeur: histoire et verite, seuil 1955 pp 23-24
[18] Paul RICOEUR: La memoire.l’histoire، l’oubli Seuil 2000 p 66
[19] ibid pp 82-111
[20]ibid p191
[21]Ibid, pp642-643
قارن بأطروحة دريدا حول العفو الذي يصدر بالنسبة له عن “جنون الاستحالة”
J.Derrida: foi et savoir suivi de le siècle et le pardon seuil 2001