في كتابه الأخير «المعركة من أجل سياسة مقبولة: الليبرالي من حيث هو صفة»، يقدم الفيلسوف الأميركي مايكل والزر تمييزاً مهماً بين التصورات الفكرية والمجتمعية لقضايا السياسة والتغيير الاجتماعي ونمط الممارسة الليبرالية التي تستوعب أشكالاً عديدة ومتباينة من الرؤى والمواقف الفكرية والأيديولوجية.
أهمية هذا التمييز تكمن في كون الليبرالية قدّمت نفسَها في سياقات عديدة بصفتها مرادفةً للتنوير والتحديث والديمقراطية، مع أن العبارة لم تكتس دلالةً إيجابية إلا بصفة متأخرة وما تزال إلى اليوم تفتقر إلى التدقيق والتمحيص.
وفي كتابه الجديد ينطلق والزر من خلفيتين متمايزتين: النقاش الفلسفي الذي عرفته أميركا الشمالية منذ سبعينيات القرن الماضي حول معايير العدالة التوزيعية في مجتمع تعددي حر، وقد تمحور حول الجدل الليبرالي المجموعاتي بعد صدور نظرية جون رولز في العدالة، والنقاش السياسي الراهن حول علاقة الديمقراطية والليبرالية إثر تنامي الحركات الشعبوية في الغرب، والتي لا يتردد بعض رموزها في اعتماد «الديمقراطية غير الليبرالية».
وفي هذا السياق المزدوج، تغدو إشكالية الليبرالية مطروحة بقوة، مع العلم بأن المقولة تحيل في المعجم الدلالي الأميركي إلى الديمقراطية الاشتراكية بالمعنى الأوروبي، في حين تحيل في النطاق الأوروبي إلى ما هو أقرب للنزعة الرأسمالية الفردية حسب المنظور الأميركي. لا بد هنا من التذكير بأن التعددية السياسية في المجتمعات الديمقراطية الغربية تتجسد في مقاربات متنوعة أهمها: الفردانية الذاتية التي تدعو إلى تقليص سلطة الدولة إلى الحد الأدنى، والنزعة المحافظة التي تحافظ على تركة التقليد والاعتقادات المؤسسية الجماعية، والأطروحة المجموعاتية التي تتأسس على معايير الاعتراف والتعددية الثقافية.
«والزر» يرى أن كل هذه الاتجاهات لا تتعارض مع الليبرالية التي ليست بالنسبة له فلسفة كلية أو رؤية للعالم، بل هي طريقة في ممارسة السياسة تقوم على الانفتاح والتسامح وقبول التعددية ورفض العنف والتسلط والإكراه.
ولا يهم بالنسبة له التباينُ حول التصورات الجوهرية للخير المشترك، ولا يرى -على طريقة رولز- أنه يمكن تجاوزها من خلال مقاربة إجرائية صورية للعدالة، فالاعتبارات الأخلاقية العقدية تظل دوماً حاضرة مهما حاولنا التحرر منها، بل إنها مطلوبة ومفيدة لما تقدمه من دوافع فاعلة لممارسة العدالة وتوجيه سلوكيات الأفراد والمجموعات.إلا أن ما يميز الليبرالي هو ما سماه آخرون «الحياد الأبستمي» في الممارسة السياسية العملية، أي قبول التعددية والتنوع والتسامح مع الآراء المغايرة، وعدم السعي لفرض الرأي الخاص بالقوة والتحكم.
المشكل مع الشعبويات الجديدة ليس إذاً في توجهاتها اليمينية القومية أو المحافظة، بل في ميولها التسلطية الأحادية، وفي زعمها أنها تجسد روح الأمة أو الإجماع الشعبي، والحال أنها تعبر عن خيارات سياسية ظرفية مشروعة لكنها ليست مطلقة ولا نهائية.
وكما أن المشكل في الأيديولوجيات الاشتراكية الراديكالية، التي سيطرت بعد الحرب العالمية الثانية على مناطق واسعة في العالم، ليس توجهها الأيديولوجي في ذاته، والذي هو أحد أوجه التصور والرأي المتولدة عن المعادلة الصناعية الطبقية، بل الممارسة السياسية المغلقة والدوغمائية.. فإن الديناميكية الشعبوية التي أفرزتها تحولات الديمقراطية التعددية تشكل اليوم خطراً جديداً على المنظومة الليبرالية التي هي روح الديمقراطية نفسها.
وفي كثير من الساحات، كما هو شأن بلدان الجنوب بما فيها دول عالمنا العربي الإسلامي، ينظر إلى الديمقراطية كمجرد مسطرة إجرائية انتخابية لحسم الصراع السياسي، بمنأى عن العقل الليبرالي التعددي، بما أفضى في حالات كثيرة إلى نجاح وتحكم قوى سياسية وأيديولوجية متزمتة ومنغلقة رافضة لقيم التعددية والتسامح التي هي جوهر الليبرالية.
وكان فيلسوف الليبرالية الأهم في العصر الحاضر جون رولز قد تحدث، في كتابه «قانون الشعوب»، عن ما سماه «المجتمعات المقبولة» descent society التي وإن كانت تراتبية وغير ليبرالية، إلا أنها تشترك مع المجتمعات الليبرالية في خاصيتين محوريتين: جودة التنظيم والعقلانية، مما يسمح لها بأن تكون مكوناً فاعلا في نظام العلاقات الدولية.
والسؤال المطروح اليوم في بلداننا التي عرف بعضُها في السنوات الأخيرة أزمات حادة في نمط الانتقال السياسي، دون أن تتمكن من العبور الآمن إلى الديمقراطية التعددية، هو: هل نحتاج إلى ليبرالية المؤسسات والنظم أم إلى العقل الليبرالي نفسه بصفته الشرط الذي لا غنى عنه في ممارسة سياسية منفتحة ومتسامحة؟
بدون العقل الليبرالي، تتحول الإجراءات الانتخابية إلى ممارسة شكلية تفضي إلى نمط من الهيمنة «الشرعية» التي تقضي على تعددية الأفكار والآراء وتفرض باسم الإرادة الشعبية الموهومة مقاربةً أيديولوجية تقسِّم المجتمع وتؤدي به إلى العنف والتناحر.