spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

اتجاهات متصاعدة: واقع الإعلام الروسي في إفريقيا

منذ نهاية الحرب الباردة رسميًّا في عام 1991م؛ سعت روسيا نحو استعادة دور الاتحاد السوفييتي سابقًا كأحد أقطاب العالم والوريث الشرعي له، وعملت على تخطّي ما يمكن أن نسمّيه “أخطاء الماضي وأسباب السقوط”، وهو ما ظهَر للعلن بشكلٍ كبيرٍ مع وصول الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” إلى سدة الحكم، في فترات ولايته الأولى التي بدأت عام 2000م وانتهت عام 2008م، والثانية التي بدأت عام 2012م ومستمرة حتى الآن، والتي شهدت محاولات روسية كبيرة في استعادة هذا الدور والهيمنة الروسية مرة أخرى، والتي كان إحدى صورها ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014م.

ولم تكن إفريقيا بعيدةً عن الطموح الروسي الساعي إلى العودة مرة أخرى إلى الساحة الدولية كقوة عظمى؛ فقد اهتم صانع القرار السياسي الروسي بالقارة الإفريقية كإحدى دوائر اهتمامات روسيا الخارجية وتحركاتها التي يجب أن يكون لها نفوذ واسع فيها، خاصةً بعد تصاعُد الاكتشافات النفطية والثروات الطبيعية في القارة، وكثرة فرص الاستثمار، وغيرها من المزايا التي جعلت من القارة الإفريقية محل اهتمام دولي واسع.

ولقد كانت قمة مدينة سوتشي بروسيا، والتي عُقِدَت في أكتوبر 2019م، إحدى أهم القمم التي جمعت روسيا بالقادة الأفارقة، والتي حدث بعدها توسُّع واضح لروسيا في إفريقيا عبر كافة المجالات، لعل في مقدمتها: المجال الأمني والتعاون العسكري، وتزايد بعد ذلك الاهتمام الروسي بإفريقيا، وأصبحت ساحةً لحرب باردة بينها وبين الغرب، وخاصةً فرنسا؛ حيث أصبحت روسيا منتشرةً في أهم دول المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا.

وسعت روسيا بشكل كبير نحو تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع الدول الإفريقية، ودعم الشركات الأمنية الروسية في إفريقيا، وعلى رأسها شركة “فاجنر” الشهيرة، وقد حظي الاهتمام الروسي بإفريقيا من الناحية الأمنية والعسكرية باهتمام واسع مِن قِبَل الباحثين والمختصين في الشؤون الإفريقية وغيرهم، إلا أن المظاهر الأخرى التي تكشف عن جوانب الاهتمام الروسي بإفريقيا، وخاصةً تلك المتعلقة بالقوة الناعمة الروسية؛ لم تَجد حيِّزًا كبيرًا من الاهتمام، وفي مقدّمة تلك القوى: المجال الإعلامي الذي يُنْظَر إليهِ على أنه لا يزال في مراحله الأولى من حيث البناء ومستوى التمدُّد الروسي الناعِم في إفريقيا.

وبشكلٍ عامّ؛ تناقش هذه الورقة: السياسة الإعلامية لروسيا في إفريقيا؛ من خلال إلقاء الضوء على محددات الإعلام الروسي، وطبيعة تناوله لقضايا السياسة الخارجية للدولة، بالإضافة إلى التناول الإعلامي الروسي للقضايا الإفريقية، وأبرز الأدوات التي تستند إليها روسيا في ذلك.

 

أولًا: الإعلام والسياسة الخارجية الروسية

 

تنقسم وسائل الإعلام الروسية إلى نوعين؛ الأول هو إعلام حكومي تابع للدولة وتسيطر عليه، وآخر تابع للقطاع الخاص؛ حيث تسيطر الدولة على قطاعي التلفزيون والإذاعة بشكل كبير، بينما يسيطر القطاع الخاص على المواقع الإلكترونية، ولكنْ بالرغم من ذلك عملت الحكومة على توجيه الإعلام الخاص، وخاصةً في قضايا السياسة الخارجية، وفقًا لما يخدم مصالح الدولة، ومما ساعد على ذلك أن الكثير من مالكي المواقع الإلكترونية الإخبارية في روسيا هم من طبقة رجال الأعمال المقربين من الدولة([1]).

ويعتبر عام 2005م هو العام الأبرز بالنسبة لوسائل الإعلام الروسية؛ حيث تم في هذا العام إنشاء قناة “روسيا اليومRT“، وهي واحدة من أبرز الأدوات الإعلامية لروسيا التي لها دور بارز في الترويج للسياسة الخارجية للدولة؛ حيث أسَّست روسيا (7) قنوات إخبارية باللغات الإنجليزية والعربية والألمانية، وتوسّعت في عام 2014م عندما قامت بتأسيس وكالة “سبوتنيك الإخبارية” التي أَخذت نهج “راديو موسكو” في محتواها والإذاعات السوفييتية السابقة في الخمسينيات من القرن الماضي. وساهمت وسائل الإعلام الروسية في لعب دور كبير في الدعاية والترويج لأهداف السياسة الخارجية للدولة، وخاصةً في السنوات الأخيرة؛ حيث أصبحت وسائل الإعلام في روسيا أداة رئيسية لحملات التأثير على الصعيدين المحلي والدولي، وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية هي:

 

1- تعزيز النشاط الدبلوماسي:

 

عملت روسيا على استخدام وسائل الإعلام في تعزيز مصالحها الخارجية من خلال نَقْل ما يمكن أن نُطلق عليه “النموذج السياسي الروسي”، والمتمثل في التعامل مع القضايا الدولية ونظرة روسيا القائمة تجاه هذه القضايا، بالإضافة إلى الحديث عن المنجزات الروسية، واستعادة روسيا لمكانتها الدبلوماسية عبر وسائل الإعلام. وتنطلق هذه الرؤية من وثيقة السياسة الخارجية الروسية التي وُضِعَت عام 2016م، وركّزت على دور وسائل الإعلام في تعزيز السياسة الخارجية لروسيا([2]).

 

2- التأثير على وسائل الإعلام الدولية:

 

يرى قادة روسيا أنّ وسائل الإعلام المحلية والدولية أدوات رئيسة للسياسة الخارجية، وخاصةً على الصعيد الدولي ومواجهة وسائل الإعلام الغربية؛ حيث تُروّج وسائل الإعلام الروسية بشكل دائم لفكرة النظام الدولي مُتعدّد الأقطاب -مع قوى متنافسة متعددة بدلاً من قوة مهيمنة واحدة-، وأن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يُشكّلان خطرًا متزايدًا على الأمن القومي لروسيا؛ حيث تمارس وسائل الإعلام الروسية مُواءَمة استراتيجيات مركزية تتبنَّاها الدولة الروسية في التعامل مع الإعلام الدولي([3]).

 

3- مواجهة الإعلام الغربي:

 

بالنظر إلى وسائل الإعلام الروسية نجد أن جمهورها محدود نسبيًّا بالمقارنة مع وسائل الإعلام الغربية الإنجليزية والفرنسية؛ وهذا يرجع إلى عدَّة عوامل؛ من أبرزها عامل اللغة، ولذلك سَعَت موسكو على نحوٍ متزايدٍ إلى تخطّي هذه العقبة، وخلق حالة من المنافسة مع وسائل الإعلام الغربية عبر دَعْم كُتّاب رأي وصحفيين من جنسيات أخرى ومتحدثي اللغة الإنجليزية والفرنسية؛ بهدف التأثير على خطاب الإعلام الغربي، وتقديم وجهات النظر والسياسات الرسمية الروسية للغرب، عبر وسائل الإعلام الدولية الناطقة باللغة الأجنبية التي تُسيطر عليها الدولة أو التي تتبنَّى الرؤية الروسية للأحداث، وتتزايد هذه الحالة من المنافسة بشكلٍ كبيرٍ في أوقات الأزمات والتشابك بين روسيا والغرب.

 

ثانيًا: طبيعة الإعلام الروسي في إفريقيا

 

استند الانتشار الإعلامي لروسيا في إفريقيا على التأكيد على مكانة روسيا كقوة عظمى، بما في ذلك الترويج لقدراتها العسكرية والأمنية؛ على اعتبار أن أحد أهم أركان تحركات روسيا السياسية تجاه إفريقيا يقوم على البُعْد الأمني والعسكري، بالإضافة إلى خطابها ورسالتها الأيديولوجية التي تتمثل في أنها هي القوة الوحيدة القادرة على مُواجهة الغرب، وبأنها لا تمتلك ماضيًا استعماريًّا لإفريقيا.

ويستند الخطاب الإعلامي الروسي نحو إفريقيا على محددات ثلاثة في مواجهة المجتمعات الإفريقية؛ وهي: (الحديث عن مخاطر الخطاب الليبيرالي للغرب بالتركيز على الحقبة الاستعمارية ونهب الثروات -تناول المشكلات الداخلية للدول الغربية وبأنه مجتمع قابل للانقسامات والصراعات- التشكيك في رسائل وسائل الإعلام الغربية)، ولترجمة هذه المحددات إلى خطوات على الأرض، اتجهت روسيا نحو:

1- مركزية المحتوى الإعلامي الموجه إلى القارة الإفريقية؛ حيث وظَّفت قنوات (Sputnik، RT) بهدف التسويق للخطاب الروسي المُعادي للغرب، وتقديم روسيا على أنها الحليف الأقوى لإفريقيا، وبأنها هي حائط الصدّ الأخير ضد الهيمنة الغربية([4]).

2- اتبعت روسيا في سياستها الإعلامية تجاه إفريقيا “التمجيد للحقبة السوفييتية”، والحديث عن دورها في إفريقيا، والـتأكيد على أن روسيا تسير على نفس الامتداد للسياسة السوفييتية التي لم تكن ذات يوم لديها رغبة استعمارية للشعوب الإفريقية، ويرجع اعتماد روسيا على استعادة أمجاد الحقبة السوفييتية في إفريقيا إلى الافتقار المعلوماتي لدى النخبة الروسية حول إفريقيا وخاصةً من الناحية الشعبية، كما لا تزال الذاكرة بالنسبة للشعوب الإفريقية تعرف تاريخ الحقبة السوفييتية أكثر من تاريخ روسيا الحديث، خاصة منذ نهاية الحرب الباردة.

3- تخصيص مساحات كبيرة من المواقع الإخبارية للشأن الإفريقي، مع ترجمة هذه الأخبار للغات أخرى إنجليزية أو فرنسية؛ تتماشى مع ثقافات الدول الإفريقية، خاصةً الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، التي في أغلبها تَعتبر اللغات الإنجليزية والفرنسية لغات أولى إلى جانب اللهجات الإفريقية المحلية.

4- دعم قنوات وصحفيين يتحدثون لغات أخرى من أجل تبنّي الأجندة الإعلامية الروسية في إفريقيا والترويج لسياسة روسيا الخارجية؛ بهدف التأثير على وسائل الإعلام الأجنبية الأخرى، وتبنّت روسيا ما يمكن تسميته بتقديم ما يروق للمواطن الإفريقي من قضايا، وما يرغب في سَماعه ومعرفته، وذلك كخطاب مُضادّ ومُوجّه للسياسات الأوروبية والغربية التي تتبنَّاها في إفريقيا.

5- إظهار محورية روسيا، ودورها في خدمة القضايا الإفريقية، خاصةً في أوقات الأزمات الحرجة؛ كموقفها من كوفيد-19، وإرسالها (200) طبيب مختصّ إلى الدول الإفريقية، وتبرعها بـ(300) ألف جُرعة لقاح إلى الاتحاد الإفريقي. كما أن وسائل الإعلام الروسية روَّجت في خطابها الإعلامي أنها هي الدولة الأولى في العالم التي نجحت في التوصل للقاح فعّال لكوفيد- 19 منذ أغسطس 2020م، وهو ما يفيد روسيا في خَلْق خطاب مؤيّد لها بين المجتمعات الإفريقية([5])؛ حيث وجدت هذه الخطوة اهتمامًا واسعًا مِن قِبَل وسائل الإعلام الروسية، بالرغم من أن هناك دولًا أخرى كانت قد ساهمت في تقديم اللقاحات للدول الإفريقية وبصورة أكبر؛ حيث إن روسيا لم تُقدّم سوى عدد قليل من الجرعات للقارة الإفريقية، وخاصةً دول جنوب الصحراء)[6](.

 

ثالثًا: واقع الخطاب الإعلامي الروسي وأدواته في إفريقيا

 

منذ عام 2010م وعندما شهدت القارة الإفريقية توسُّعًا أكبر في إنشاء شبكات الإنترنت؛ كانت روسيا حينها تأخذ خطوات نحو الوصول إلى إفريقيا والتأثير في الأفارقة؛ حيث كانت قناة (RT) حينها هي القناة الأشهر لروسيا، والتي تُعدّ القناة الإعلامية الأبرز للدولة؛ حيث عملت روسيا في ذلك الوقت على نقل أخبار القارة كأيّ وسيلة إعلام دولية، ولكنَّ المُلاحَظ أن روسيا اعتمدت على تقديم محتوًى إعلاميّ يُناسب الذوق الإفريقي من خلال الحديث عن مشكلات الدول الإفريقية، وخاصةً مع الاستعمار والقضايا الأمنية والاجتماعية الأخرى في إفريقيا([7])؛ إلا أن الاهتمام الإعلامي الروسي بأخبار القارة الإفريقية بشكل كبير يرجع إلى العام 2018م، فقد اهتمت روسيا بدعم وسائل الإعلام والصحفيين الأفارقة الموالين لروسيا، بالإضافة إلى إنشاء صفحات إخبارية وقنوات تلفزيونية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ثم توالى الاهتمام الروسي بإفريقيا بعد ذلك.

من جهة أخرى تُعدّ قمة سوتشي 2019م حدثًا مهمًّا يُعبّر عن محورية الاهتمام الروسي القوي بالقارة الإفريقية، وكانت وسائل الإعلام الروسية قد اهتمت بالترويج القويّ لهذه القمة الإفريقية الروسية، وبشكل خاصّ تجاه الدول المغاربية وغرب إفريقيا، وكانت وكالة “سبوتنيك” الإخبارية قد خصَّصت عددًا من الصحفيين الأفارقة، وتعاقدت معهم في هذه الفترة من أجل الحديث عن روسيا وأهمية وجودها في إفريقيا كقوة عظمى غير استعمارية، وعن أهداف قمة سوتشي، وما يمكن أن تحققه روسيا لإفريقيا.

كما أعلنت وكالة الأنباء الروسية (تاس) أنها ستعزّز الشراكة مع وسائل الإعلام الإفريقية عبر تقديم تدريب إعلامي للصحفيين الأفارقة مِن قِبَل الوكالة؛ لنقل صورة إعلامية إيجابية عن روسيا في إفريقيا، وهي سياسة إعلامية قديمة بالنسبة لروسيا في الترويج الإيجابي لتحركاتها، حتى وإن كانت محدودة؛ ففي عام 2010م صوَّرت روسيا نفسها على أنها لاعب حاسم في مكافحة الإيبولا بغرب إفريقيا، بالرغم من محدودية الدور الروسي في مكافحة هذا الوباء في ذلك الوقت. وفي عام 2020م قررت الدولة الروسية أن تخصص (420) مليون دولار لوسائل الإعلام الروسية التي تبثّ خارجيًّا، على أن تُوجّه النسبة الأكبر من هذا التخصيص نحو إفريقيا، بالإضافة إلى تخصيص (34%) من طلبات الإعلانات على وسائل الإعلام لصالح هذه القنوات([8]).

واعتمدت روسيا على مجموعة من الأدوات التي سعت من خلالها إلى الوصول نحو المجتمعات في إفريقيا؛ وهي:

 

1- إنشاء القنوات الإلكترونية الإعلامية:

 

عملت روسيا على إنشاء قنوات إعلامية إلكترونية في الدول الإفريقية تتبنَّى الأجندة الروسية تجاه إفريقيا، وتُعدّ قناة (Afriquemedia.tv) مثالاً على ذلك، والتي أُنشئت عام 2011م بالكاميرون، ويُطلَق عليها اسم شبكة “شبكة CNN الإفريقية”، ويرأسها الصحفي البنيني “كيمي سيبا”([9])، وتتبنَّى النهج الروسي القائم على تصوير الدول الغربية والولايات المتحدة على أنهم أتوا من أجل تدمير إفريقيا، وخاصةً فرنسا، كما تدير روسيا قنوات إعلامية وإخبارية أخرى في عددٍ من الدول الإفريقية.

 

2- دعم الصحافة الإفريقية:

 

اهتمت روسيا منذ عام 2018م بالتعاون مع المواقع الصحفية الإفريقية، واستقطاب البعض منهم للحديث عن القضايا الإفريقية، وهو ما رصدته دراسة البحوث الاستراتيجية بباريس (IRSEM)، والتي أشارت إلى أن هناك ما يقرب من (4000) موقع إلكتروني نشروا مقالات لكُتّاب أفارقة مؤيدين لروسيا باللغة الفرنسية على مواقع عديدة كان من أشهرها (SeneWeb.com، Mediacongo.net، Nigerdiaspora.net)([10])، هذا إلى جانب التوجه الروسي القائم على دعم قضايا ذات أهمية كبيرة بالنسبة لها في مواجهة منافسيها في القارة.

 

3- الانتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي:

 

اتخذت روسيا طريقًا آخر أكثر قربًا من المجتمعات بشكل عام؛ ألا وهو الدخول إلى وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث كثَّفت روسيا من وجودها في هذا الفضاء الواسع عن طريق شبكات صحفية وحسابات تُروّج للمصالح الروسية في إفريقيا؛ فالاهتمام الروسي بوسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولة التأثير فيه بشكل عام جاء بعد الحملة القوية التي شنَّتها الدول الغربية على قمة سوتشي التي عُقِدَت في أكتوبر 2019م بين روسيا والدول الإفريقية؛ حيث بسبب عدم الانتشار الإعلامي الواسع لروسيا في إفريقيا تمكَّنت وسائل الإعلام الغربية من تشويه صورة هذه القمة وشيطنة الأهداف الروسية في إفريقيا([11]).

هذا وقد ازداد مستوى الدعاية والحملات الروسية تجاه إفريقيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية الأخرى بدءًا من عام 2013م؛ حيث عملت روسيا على محاولة التأثير في الرأي العام الإفريقي من خلال مواقع التواصل، وخاصةً “الفيس بوك وتليجرام وتوتير”، كما اتجهت روسيا نحو منحًى آخر في استراتيجيتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ ألا وهي اختراق حسابات بعض الشخصيات الصحفية الإفريقية، بالإضافة إلى تكليف حسابات أخرى تُديرها شخصيات إفريقية وصفحات إخبارية من أجل تعزيز الخطاب الإعلامي الروسي([12]).

وشهد الاهتمام الروسي بوسائل التواصل الاجتماعي في إفريقيا تصاعدًا كبيرًا منذ بداية عام 2018م؛ حيث كثَّفت روسيا من الانتشار في هذا المجال بشكل كبير؛ كونه يعد الأوسع انتشارًا والأقل تكلفة من حيث التجهيزات وغيرها، وكانت شركة “فاجنر” الروسية أول مَن اعتمد على هذه الاستراتيجية في الترويج للسياسات الروسية عبر المنصات الاجتماعية؛ حيث قامت بالترويج لحملات دعائية على وسائل التواصل الاجتماعي.

ونجحت في أن تسيطر على صفحات متعددة عبر هذه المنصات، وروَّجت لصفقات السلاح الروسي في إفريقيا، وعن أهمية المشروعات التي تقوم بها في مجال الطاقة، بالإضافة إلى شراء صفحات إخبارية إفريقية بهدف التأثير على اتجاهات المجتمع الإفريقي([13]).

وكدليل على الاهتمام الروسي بشبكات التواصل الاجتماعية الإفريقية، وسعيها نحو السيطرة عليها؛ عملت روسيا على إنشاء شبكة تسمى بـ(Russosphère) أو “الفضاء الروسي”؛ حيث تنشر هذه الشبكة الإخبارية منشورات تصف فرنسا والغرب بالدول الاستعمارية، وتُثني على سياسة الرئيس “فلاديمير بوتين”، وتصف الجيش الأوكراني بالنازي، وتمتدح أنشطة مجموعة فاجنر في إفريقيا([14]).

وبفضل هذه السياسات نجحت روسيا في أن تضع قدمًا لها في إفريقيا الوسطى من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والدعاية الإعلامية التي تمكَّنت من خلق تيار قويّ وسط المجتمع هناك، بالإضافة إلى دول أخرى؛ مثل: مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد؛ حيث استفادت روسيا من حَشْد رأي عام مُعارِض للوجود الفرنسي بها، ومُرِّحب بالدعم الروسي([15]).

 

رابعًا: مستقبل الإعلام الروسي في إفريقيا: اتجاهات متصاعدة

 

يعكس مدى الرغبة الروسية في أن يكون لوسائل الإعلام دور في إفريقيا ومدى الاهتمام بها من قِبل صناع القرار السياسي في الدولة، وإدراكهم لأهمية الإعلام في بناء سياسة خارجية قوية، ويتضح ذلك من حجم الاهتمام الروسي بتعدُّد صور التوظيف للأداة الإعلامية الروسية في مواجهة النفوذ الغربي، ليس فقط عبر أوروبا، بل توسعت في توظيف وسائل إعلامها عبر الفضاء الإلكتروني والإعلامي على مستوى العالم، والترويج للنموذج الروسي لتوسيع الشَّراكات الروسية مع الدول الأخرى، وفتح المجال أمام تعزيز العلاقات مع إفريقيا وغيرها؛ لتحقيق الاستفادة السياسية والاقتصادية، واكتساب نفوذ قويّ يسمح لها بأن تلعب دورًا سياسيًّا أقوى في ظلّ الرغبة الروسية في بناء عالم متعدّد الأقطاب وليس أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة والغرب، وبشكلٍ عامّ فإنَّ مستقبل الإعلام الروسيّ في إفريقيا سيأخذ شكلًا تصاعديًّا، ولكن سيمر بعدد من السمات، وهي:

 

1- الانتشار التدريجي الانتقائي

 

يعكس مستوى الانتشار لوسائل الإعلام الروسية في إفريقيا حالة الارتفاع التدريجي للسياسة الإعلامية الروسية مستقبلًا، خاصةً أن الإعلام الروسي يخاطب الشعوب الإفريقية من منطلق أن روسيا ليس لها ماضٍ استعماريّ كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ويمكن الدلالة على ذلك من خلال الإحصائية التالية التي تكشف عن مستوى المتابعة للمواقع الإخبارية الناطقة بالفرنسية لقناتي )روسيا اليوم وسبوتنيك) خلال عام 2021م.

 

الاهتمام الإعلامي لبعض الدول الإفريقية بقناتي (روسيا اليوم وسبوتنيك) خلال عام 2021م

لدولة

الموقع الإخباري

حجم المتابعة

مالي

Rt France

107000

الكاميرون

Sputnik France

121000

مالي

Sputnik France

3000

كوت ديفوار

Sputnik France

74000

 

المصدر: من إعداد الباحث، بالاعتماد على مصادر الدراسة (Le dispositif d’influence informationnelle de la Russie en Afrique subsaharienne francophone : un écosystème flexible et composite).

 

إلى جانب هذه الإحصائية تُمثّل بوركينا فاسو مصدرًا مهمًّا في قياس التأثير الخاصّ بوسائل الإعلام الروسية على المواطن الإفريقي، فقد حققت نسبة مشاهدات المواطنين للمواقع الإخبارية الروسية في بوركينا فاسو المركز الثالث، وبنسبة (6.2%)؛ من حيث الاهتمام الإعلامي لمواطني بوركينا فاسو بوسائل الإعلام الأجنبية، وذلك في إحصائية عن شهر نوفمبر لعام 2021م، بينما في مارس 2022م ارتفعت نسبة المتابعة الإعلامية للمواقع الإخبارية الروسية الناطقة بالفرنسية إلى (12.8%)، وحلّت في المرتبة الثانية من حيث مستوى الاهتمام الإعلامي لمواطني بوركينافاسو([16])، وتعكس حالة بوركينا فاسو مدى التصاعد التدريجي التي تَحْظى بها وسائل الإعلام الروسية في إفريقيا؛ على الرغم من أنها لم تصل إلى حدّ التأثير القوي للإعلام الفرنسي.

 

2– تصاعد المواجهة مع وسائل الإعلام الغربية:

 

إن قدرة الإعلام الروسي على التوسع في إفريقيا مرهون بقدرته على مواجهة الآلة الإعلامية الغربية، وخاصةً أن الدول الغربية لديها نفوذ إعلامي قوي ومتطور بالنسبة لشؤون القارة الإفريقية، وقد تتجه وسائل الإعلام الغربية نحو تصعيد المواجهة مع وسائل الإعلام الروسية في إفريقيا، بالتزامن مع رؤية وسائل الإعلام الغربية وصانعي القرار السياسي في الغرب بأن روسيا لا تزال غير قادرة على استقطاب الطبقة الوسطى في إفريقيا جنوب الصحراء، وبأن الاهتمام الإعلامي الروسي سيظل مرتكزًا على دول الشمال الإفريقي.

ولكن على الرغم من ذلك يبدو أن روسيا بدأت تتخذ خطوات نحو بناء استراتيجية إعلامية في إفريقيا، فقد وقَّعت “سبوتنيك” العديد من الاتفاقيات التعاونية مع وسائل إعلام إفريقية؛ شملت مواقع إخبارية كـ   (News Ghana)، بالإضافة إلى وكالة الصحافة الإيفوارية، والتلفزيون الوطني الكونغولي (بهدف تدريب الصحفيين العاملين في هذه الجهات)، وفي فبراير 2022م، وقبل أيام من الأزمة الروسية الأوكرانية افتتحت قناة روسيا اليوم مكتب مراسلة جديد في كينيا([17])، وفي 21 يوليو 2022م قامت )سبوتنيك فرنسا( بتغير اسمها إلى )سبوتنيك أفريك(، هذا إلى جانب التوسع المتوقع أن يحدث لوسائل الإعلام الروسية في إفريقيا مِن قِبَل قناة روسيا اليوم؛ من خلال التوجّه نحو فتح مكاتب لها في عدد من العواصم والدول الإفريقية، ومن بينها جنوب إفريقيا.

ففي أواخر يناير وأوائل فبراير 2023م عقد النادي الروسي الإفريقي بجامعة “لومونوسوف موسكو” الحكومية ورشتي عمل حول وسائل الإعلام الروسية في إفريقيا، وأشار المشاركون إلى حدوث تحول إيجابي في التغطية الإعلامية لروسيا وإفريقيا، إضافةً إلى زيادة اهتمام الجمهور الروسي والإفريقي بالقضايا المتعلقة بالحياة والتقاليد والإنجازات العلمية والثقافية والرياضية لبلدان إفريقيا وروسيا، وبأن الطريق متاح أمام روسيا لنشر وسائل إعلامها في إفريقيا؛ خاصةً مع تعطُّش الأفارقة لسماع رؤى أخرى حول القضايا الدولية في ظل الأجندة الإعلامية للدول الغربية المنتشرة بين عموم المجتمعات الإفريقية. وأشار مسؤول التعاون الدولي بقناة روسيا اليوم “فاسيلي بوشكوف” في هذا اللقاء إلى أن هناك توسُّعًا ملحوظًا في بثّ القناة إلى البلدان الإفريقية بعدة لغات.

 

3- تكثيف الانتشار عبر منصات التواصل الاجتماعي:

 

من المتوقّع أن تُصعّد روسيا من انتشارها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لخلق مزيد من التأثير، ولمواجهة وسائل الإعلام الغربية؛ حيث ستعمل الآلة الإعلامية الروسية على دعم مواقع التواصل الاجتماعي؛ لأنها من أدوات التأثير التي تُوجد في أيدي كل شخص، وقد أدركت الدول الأوروبية خطورة هذه الخطوة عليها؛ حيث عملت على استصدار قانون جديد لحماية تدفُّق المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والحسابات الإلكترونية، وذلك ضمن سياق أوسع وأشمل يتمثل في التصدي للأخبار والحسابات الإلكترونية المحسوبة على روسيا والصين على الإنترنت؛ حيث رصد مركز المعلومات التابع لوكالة العمل الخارجي بالاتحاد الأوروبي (27) جهة إعلامية متعاونة مع روسيا منذ الصراع الروسي الأوكراني، وفي هذا الإطار فقد دعا وزير الخارجية التشيكي “يان ليبافسكي” في نوفمبر 2022م الاتحاد الأوروبي في اجتماع للممثلين الأوروبيين المعنيين بمنطقة الساحل إلى التصدي للدعاية الروسية، وخاصةً في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو([18]).

كما تشير تقارير أخرى إلى أن فرنسا من أكثر الدول الأوروبية التي تخشى من الانتشار الروسي الواسع عبر منصات التواصل الاجتماعي، وعملت على اتباع مجموعة من الخطوات في السعي نحو التصدي للخطاب الروسي عبر المنصات الاجتماعية؛ حيث اتجهت القوات المسلحة الفرنسية إلى إنشاء “وحدة حرب للمعلومات”؛ بهدف متابعة الهجمات الإعلامية التي تتدفق من روسيا إلى إفريقيا، وهي استراتيجية بالأساس تهدف إلى مواجهة الانتشار الأمني لقوات فاجنر في الدول الإفريقية([19])، كما أن إدارة الفيس بوك كانت قد أعلنت في وقت سابق بأنها قامت بحذف (6800) حساب فيس بوك مزيّف يروّج للسياسة الفرنسية في إفريقيا ويَشُنّ هجومًا على روسيا.

 

محمد عادل عثمان / أكاديمي مصري

المصدر: مجلة قراءات إفريقية

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المراجع:

 

([1]) Vera Zakem, Paul Saunders, Umida Hashimova, and P. Kathleen Hammerberg ,“ Mapping Russian Media Network: Media’s Role in Russian Foreign Policy and Decision-making“ (Virginia: CNA Analysis and Solutions Arlington VA Arlington, January 2018)p.12.

 

([2]) Meeting of Russian Federation ambassadors and permanent envoys, President of Russia, June 30, 2016,accssed, Feb 21,2023,at: http://en.kremlin.ru/events/president/news/52298

 

([3]) Vera Zakem, Paul Saunders, Umida Hashimova, and P. Kathleen Hammerberg ,op.cit.,p.15.

 

([4])  أحمد رحمانوف، الحرب المعلوماتية: دور وسائل الإعلام في مواجهة الغرب، مجلة اتجاهات الأحداث (أبو ظبي: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، العدد (25)، يناير 2018) ص 77.

 

([5]) Emman El-Badawy, Sandun Munasinghe, Audu Bulama Bukarti, Beatrice Bianchi,“ Security, Soft Power and Regime Support: Spheres of Russian Influence in Africa“, GLOBAL CHALLENGES,( London: y the Tony Blair Institute for Global Change, March 2022)P.18

 

([6]) إسراء أحمد إسماعيل، صفقات جيوسياسية: مخاطر توظيف روسيا والصين لدبلوماسية اللقاح، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 10 مايو 2021م، تاريخ التصفح 27 فبراير 2022ك، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3y5Nplu

 

([7]) Kevin Limonier and Marlene Laruelle, “Russia’s African Toolkit: Digital Influence and Entrepreneurs of Influence“,) Philadelphia: The Foreign Policy Research Institute, Summer 2021(p.406.

 

([8]) Maxime Audinet et Kevin Limonier, Le dispositif d’influence informationnelle de la Russie en Afrique subsaharienne francophone : un écosystème flexible et composite, questions de communication,2022,P.132.

 

([9]) Kevin Limonier and Marlene Laruelle ,op.cit, P.414.

 

([10]) Ibid,p.407

 

([11]) Kester Kenn Klomegah, Why Russia Is Slow To Unlock Media Potential With Africa, Eurasia, May 2, 2020, accessed, feb 27,2022,at: https://bit.ly/3kDizNU

 

([12]) حكيم ألادي نجم الدين، الدعاية الإعلامية وتعزيز الوجود العسكري: استراتيجية جديدة لأوروبا في الساحل، ورقة تحليلية (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات 29 ديسمبر 2022م)، ص3.

 

([13]) بهاء الدين عياد، “الحرب الباردة الثانية” تكشر عن أنيابها في إفريقيا”، إندبندنت عربية، 23 مايو 2022م، تاريخ التصفح: 26 فبراير 2023م، متاح على الرابط التالي:  https://bit.ly/41x5TIV

 

([14])  شبكة معلوماتية تروّج لروسيا وتهاجم فرنسا والغرب في إفريقيا، بي بي سي عربي، 2 فبراير 2023م، تاريخ التصفح: 28 فبراير 2023م، متاح على الرابط التالي:  https://bbc.in/3ZjzqEk

 

([15])  حمدي بشير، تأجيج الأوضاع: ما انعكاسات حرب الوكالة بين فرنسا وروسيا في غرب إفريقيا؟، مركز إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 5 ديسمبر 2022م، تاريخ التصفح: 28 فبراير 2022م، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3kEnvSw

 

([16]) Maxime Audinet et Kevin Limonier, susmentionnée, P.134.

 

([17]) Banned in Europe, Kremlin-Backed RT Channel Turns to Africa, Bloomberg, July 22, 2022, accessed, feb 27,2022,at: https://bloom.bg/3Z99LhE

 

([18]) حكيم ألادي نجم الدين، مرجع سبق ذكره، ص3.

 

([19]) حمدي بشير، مرجع سبق ذكره.

spot_img