spot_img

اقرأ أيضا..

شاع في هذا القسم

أميركا وما بعد النيوليبرالية

في مقالة منشورة مؤخراً بمجلة «فورين آفيرز» الأميركية، كتبت جنيفر هاريس، الباحثة المرموقة في الشؤون الاقتصادية الدولية، عن ما سمته «المنعرج ما بعد النيوليبرالي» في التوجهات الرسمية للإدارة الأميركية الجديدة.
وحسب الباحثة، فما تشهده الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة هو القطيعة مع السياسات النيوليبرالية التي اعتمدها الرئيس الأسبق رونالد ريغان في إيمانه بفاعلية الأسواق ونجاعتها العملية الصادرة عن النظام الطبيعي للأشياء. لقد ساد في أيامنا انطباع قوي بأن العولمة الليبرالية قد أدت إلى تكريس البطالة والغبن وتقويض الهياكل الصناعية وأصبحت في مصلحة خصوم أميركا المنافسين.
لم تتغير كثيراً السياسات الحمائية والجمركية التي بدأها الرئيس ترامب في عهده الأول، طيلة حقبة خلفه «الديمقراطي» بايدن. وهكذا نرى أن النخب السياسية الأميركية تلتقي عموماً في نمط جديد من «الرأسمالية الديمقراطية» على أنقاض الأيديولوجيا النيوليبرالية التي عرفتها الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي.
وبالنسبة لهذه النخب لا بد من تصحيح أخطاء الأسواق التي تعاني من عدة اختلالات خطيرة، من بينها تركز الثروة في يد فئة قليلة ضيقة وتكريس سلطة أقلية سياسية محترفة مقطوعة الصلة عن عامة الشعب.
لا فرق بين «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» في هذه النزعة الوسطية الجديدة التي تغذيها دراسات عدد من علماء الاقتصاد البارزين. وهكذا ترى هاريس أن «الإجماع ما بعد النيوليبرالي» يقوم على فكرتين تتعلقان بمقتضيات التوازن والبناء. التوازن حاجة ضرورية للحد من ميل الأسواق إلى التفاوت وانعدام المساواة بحيث لم يعد لأغلب الناس قدرة على التحكم في الحياة الاقتصادية، بما ينتج عنه كبح الإبداع والنمو وتأجيج الكساد والأزمات الاجتماعية. أما البناء فيتجلى في ضرورة استخدام سلطة الدولة ومواردها من أجل تنشيط الحقول الاقتصادية الحيوية والاستثمار في التقنيات الجديدة ذات الأثر الاجتماعي الملموس على حياة الناس.
وتخلص الباحثة إلى أن قرارات ترامب الأخيرة لا تخرج عن نطاق هذا الإجماع ما بعد النيوليبرالي الذي له انعكاسات واضحة في مجال السياسة الخارجية للدولة العظمى، تبرز في الضغوط القوية التي تفرضها الإدارة الجديدة على شركائها الدوليين من أجل الانسجام مع رؤيتها الاقتصادية التي هي محور فلسفتها الديبلوماسية والاستراتيجية.
وفي هذا السياق، تلاحظ هاريس أن الرئيس السابق بايدن اعتمد المنظور ما بعد النيوليبرالي، مع الحرص على حصره في المجال الاقتصادي المادي دون معالجة مقتضياته السياسية والمجتمعية. وهكذا غاب الجدل الفلسفي الفكري الهام حول مفهوم الحرية في المشروع الحداثي الأميركي الذي عرف منذ تشكله حواراً معقداً ومتجدداً بين المفهوم الليبرالي الفردي التقليدي للحرية والمنظور الاندماجي لهذه القيمة الكبرى التي تعني أيضاً الاستقلالية والمشاركة المدنية النشطة. وما نشهده حالياً مع الظاهرة الترامبية، في ما وراء جوانبها الاستعراضية المثيرة، هو انفجار هذا الجدل النظري الأيديولوجي المعلق.
ما نستخلصه من مقالة جنيفر هاريس هو أن المجتمع الأميركي يشهد راهناً نقلةً نوعية داخلية، تنهي في آن واحد تراث الكينزية التي برزت بعد الأزمة الاقتصادية العالمية الأولى وحروب النصف الأول من القرن العشرين، والسياسات النيوليبرالية التي انطلقت مع الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريغان وأدت في مراحلها الأولى إلى مكاسب سياسية واقتصادية ملموسة.
وعلى الرغم من الصلات الجلية بين التقليد «الليبرتاري» الذي يركز على المعايير الفلسفية للحرية كقيمة إنسانية عليا مطلقة والتقليد «النيوليبرالي» في تصوره للسياسات الاقتصادية من منظور منطق السوق الذاتي والحد من تدخل الدولة، إلا أن الأمر يتعلق في الحقيقة بخلفيتين نظريتين متمايزتين، وإن صدرتا عن نفس الرؤية الليبرالية الكبرى التي تأسست عليها الثورة الأميركية الحديثة.
ما بعد النيوليبرالية هي من جهة تكريس لنهج الإصلاحات الاجتماعية لتصحيح اختلالات السوق، لكنها تختلف مع الكينزية في نزعتها القومية الانكفائية وفي تدخلها الانتقائي في الحقول التقنية والصناعية المؤهلة للدعم والحماية. كما أنها تلتقي مع النيوليبرالية في السياسات الضريبية والخصخصة الواسعة، لكنها تختلف عنها في الدور السياسي الضبطي والتوجيهي للسلطات العمومية.
ويمكن القول إن الإجماع ما بعد النيوليبرالي له صيغتان: شعبوية محافظة هي التي نلمسها اليوم مع الرئيس ترامب، ويسارية راديكالية تظهر بقوة لدى الجناح الهوياتي الحقوقي في الحزب الديمقراطي. وما تلتقي فيه النزعتان على اختلافهما هو الوعي بضرورة الحفاظ على الريادة الأميركية من خلال التحكم في عناصر القوة الاقتصادية والتقنية التي هي أدوات الديبلوماسية العالمية الجديدة.

spot_img