ضمن مقال منشور مؤخراً في مجلة فورين أفيرز بعنوان «مخاطر الانعزالية: العالم لايزال بحاجة لأميركا وأميركا لا تزال بحاجة للعالم»، تتناول وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس الإشكالات الاستراتيجية المطروحة حالياً في بلادها، في سياق الحملة الانتخابية الرئاسية القائمة. لا تخفي «رايس» منذ البداية اعتراضها على الانطباع السائد بأن العالم عاد إلى حقبة الحرب الباردة، رغم حالات التصدع الحادة التي يعاني منها النظام الدولي راهناً، بانعكاساتها القوية على مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية.
ففي الوقت الذي يذهب البعض إلى أن الصين تحتل حالياً موقع الاتحاد السوفييتي في الصراع القطبي الجديد، تبين رايس أن الفرق الجوهري بين البلدين يكمن في عنصرين أساسيين هما: كون الاتحاد السوفييتي اعتمد موقفاً انعزالياً داخل مجاله الحيوي الخاص بينما اختارت الصين منذ السبعينيات طريق الانفتاح على العالم والتفاعل الإيجابي معه، وغياب العنصر الأيديولوجي في سياسة الصين الخارجية رغم تمسكها بالنظام الشيوعي داخلياً. ما يحدث اليوم أقرب إلى أوضاع العالم في نهاية القرن التاسع العشر وما بين الحربين، حيث تتصارع القوى الدولية على تقاسم مناطق النفوذ الخارجية ولو باستخدام القوة، بينما تحبذ الولايات المتحدة الانعزال عن قضايا المعمورة.
خلال الحرب الباردة كانت الصراعات تدار عن طريق وكلاء اقليميين، ولم يكن الاتحاد السوفييتي ميالاً للتدخل خارج الحزام الاشتراكي في أوروبا الشرقية، بينما حال الردع النووي الاستباقي دون المواجهة المباشرة بين القطبين المتنافسين. ما يحدث حالياً هو احتمال اندلاع صراعات عسكرية مدمرة بين القوى الكبرى، سواء تعلق الأمر بالصين التي تهدد المصالح الأميركية المباشرة في منطقة الاندوباسفيك وتستهدف أمن حلفاء الولايات المتحدة الاقليميين (من اليابان إلى الفلبين وصولاً إلى الهند وفيتنام)، أو روسيا التي هددت عقيدة الأمن الأطلسية بحربها على أوكرانيا.
بخصوص الصين، تلاحظ رايس أن الإدارات الأميركية المتعاقبة أدركت مؤخراً الخطر الاستراتيجي لهذه الدولة العظمى التي أصبحت القوة البحرية الأولى في العالم، كما طورت إلى مدى بعيد سلاحها النووي، وركزت على التقنيات المستقبلية في مجالات الذكاء الاصطناعي واستكشاف الفضاء والإلكترونيات الكمية..ولم تنجح المقاربة الأميركية التقليدية التي راهنت على التحول المنطقي من الرأسمالية الاقتصادية إلى الليبرالية السياسية في الصين.ولا ترى «رايس» جدوى لسياسة التصادم الجذري مع الصين، بل تذهب إلى ضرورة إعادة شروط ومقومات العلاقات الأميركية- الصينية على أسس جديدة تحفظ مصالح البلدين ضمن عالم مترابط الحلقات والمصير. بخصوص روسيا، ترى رايس أن نظام بوتين واجه حربا شرسة من أوكرانيا وحلفائها الغربيين أضعفت مقدراته الاقتصادية والاستراتيجية، وإن كان من الصعب على روسيا التخلي عن مجالها الحيوي في البحر الأسود، ولذا فهي غير مستعدة للهزيمة في الحرب الدائرة. وتخلص رايس إلى أن الولايات المتحدة الأميركية مطالبة بالحفاظ على النظام الليبرالي، الذي أبدعته بعد الحربين العالميتين، لكون القوى الأوربية والآسيوية عاجزة عن إدارة الأوضاع الاستراتيجية بدون واشنطن. لقد قام هذا النظام الليبرالي على ركيزتي «الخير المشترك الاقتصادي» و«الخير المشترك الأمني»، وأفضى إلى قواعد دقيقة وصارمة لضبط الاقتصاد العالمي والأمن الدولي.
ولا يمكن اليوم الرهان على الديناميكية الداخلية للعولمة من أجل ضبط أوضاع العالم الحالي، كما لا معنى للعودة للسياسات الحمائية والانعزالية والأنظمة الشعبوية السيادية. في هذا السياق، لا بد لواشنطن من الإبقاء على سياسة الضغوط الصارمة على ما تسميه رايس «القوى المراجعة»(الصين وروسيا) دون المبالغة في سياسات العقوبة القصوى العقيمة وغير المجدية. كما يتعين على الولايات المتحدة حماية حلفائها التقليديين في أوروبا وآسيا، والحفاظ على التفوق التقني والعسكري، ومواجهة المخاطر الأربعة التي تهدد استقرار العالم وهي الشعبوية والتعصب القومي والانعزالية والحمائية.
كلمة الختم هي أن مصالح أميركا الحيوية تظل منوطة بزعامة الأمم الديمقراطية والتحكم في الاقتصاد الليبرالي الحر، وهي نفسها مصلحة العالم كله. المقالة المهمة التي عرضناها تُشكل مساهمةً أساسية في الجدل الاستراتيجي المفتوح حالياً في الولايات المتحدة، أثناء وضع عالمي حاسم لا يتردد البعض في اعتباره مؤشراً ملموساً على نهاية «النظام الليبرالي الدولي»، في حين ترى «رايس» أهمية الحفاظ على هذا النظام ولو من خلفيات ومنطلقات جديدة. بالنسبة لرايس على الولايات المتحدة، أن تؤمن استمرارية وفاعلية المنظومة الليبرالية الديمقراطية، رغم المخاطر التي تتهددها، من أجل مصلحتها القومية ومصلحة العالم من حولها.