في مقابلة أخيرة مع «المجلة الفلسفية الفرنسية» (1 أغسطس 2024)، يبين الفيلسوف الأميركي المعروف مايكل فالزر أن الصراع السياسي الدائر حالياً في الولايات المتحدة يتعلق بمقاربتين متمايزتين للأمة الأميركية: إما النظر لهذه البلاد بصفتها من دون هوية إثنية، وحدتها الاعتبارات السياسية وبنيتها الدستورية وتاريخها الخاص والتزامها القوي بالديمقراطية، أو النظر إليها من زاوية القومية الإثنية المتمحورة حول البيض المسيحيين المهددين بمخاطر الهجرة والتعددية العرقية والدينية.
«فالزر» يُفسر صعود التيار القومي الإثني بامتعاض الطبقات العاملة والريفية من سياسات الليبراليين الجدد الذين راهنوا مطولا على القدرة على حسم الصراع الانتخابي من خلال تصويت الطبقة الوسطى العليا المتعلمة والأقليات السوداء والإسبانية (ذوي الأصول اللاتينية).
ما تغير أن فكرة الحركية الاجتماعية التي هي جوهر الحلم الأميركي تراجعت جذرياً، بما انعكس سلبا في تزايد أصناف التفاوت واللامساواة خصوصا في المدن الصناعية العتيقة، إلى درجة انهيار آفاق الصعود المهني والاجتماعي.
إن هذا الوضع يمهد حسب «فالزر» للحالة النازية كما حدث في ألمانيا في الثلاثينيات، حيث تركزت هذه النزعة المتطرفة في أوساط العاطلين عن العمل وأصحاب المهن الهشة وفي صفوف الطبقة الوسطى التي تستشعر مخاطر التراجع والانهيار. وما يحدث حالياً في الولايات المتحدة هو بروز قاعدة اجتماعية من هذا النوع، هي الدعامة الأساسية للترامبية، في الوقت الذي تسعى فيه القيادات الديمقراطية إلى إعادة الاعتبار للنقابات العمالية وحركة الشغيلة وفق معايير الليبرالية الأميركية الأصلية التي تقوم على المساواة الاجتماعية والديمقراطية الدستورية.
هل ستنجح المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في تنشيط الليبرالية الأميركية على أساس تجديد المسألة العمالية في أفق العدالة الاجتماعية من حيث هي محور الخطاب السياسي للحزب «الديمقراطي»؟ السؤال مطروح بقوة، لكن «فالزر» يرى أن مسألة القومية المسيحية ستظل حاضرة بكثافة في الحقل السياسي الأميركي، مهما كانت نتيجة الانتخابات المقررة في نوفمبر القادم.
من المعروف أن هذه النزعة القومية المسيحية تتغذى من مفهوم «الديانة العمومية» التي هي القاعدة المرجعية الصلبة للمجتمع الأميركي، وإن حاولت اختزالها في الطابع الإثني الانغالوساكسوني، بينما تفيد المعطيات الموضوعية أن الديانة العمومية تتوسع تدريجيا لتشمل مختلف المعتقدات بما فيها اليهودية والإسلام، ضمن النسيج القومي الأميركي الخاص. تلك هي قراءة فالزر للواقع السياسي الأميركي الحالي في توتره الجدلي بين النزعتين الليبرالية والقومية الدينية، وقد خلص منها إلى أن البلاد سائرة نحو تصدع فكري واجتماعي حاد، لكنه لن يصل إلى خطر الحرب الأهلية التي يحذر منها كثير من السياسيين من مختلف الاتجاهات.
ما نريد أن نضيفه على هذا التحليل المهم، هو أن صراع الأفكار المحتدم حالياً في المجتمع الأميركي لم يعد محصورا في الحزبين الكبيرين اللذين يتقاسمان منذ عقود طويلة الحياة السياسية الأميركية. فالنزعة الليبرالية في مقوماتها الثلاث (الفردية والمساواتية والديانة العمومية) تخترق مختلف الاتجاهات الحزبية وإن كانت تتأرجح بين نزعة محافظة تقليدية ونزعة راديكالية تفكيكية لكل الثوابت والتصنيفات السائدة، كما أن المقاربة الهوياتية حاضرة في كل الاتجاهات وإن كانت تتفاوت بين نزعة اجتماعية اختلافية وأخرى عرقية إثنية.
ما حدث مع ظاهرة ترامب منذ عشر سنوات هو خروج الصراع السياسي عن محدداته وتقاليده المألوفة، باعتبار الطبيعة الشخصية للرجل الذي وإن كان يعبر عن حالة أميركية عامة، إلا أنه ترك بصماته الخاصة على المشهد السياسي. صحيح أن الظاهرة الشعبوية المحافظة تتجاوز السياق الأميركي وتمتد إلى العالم الليبرالي الغربي بكامله، لكن لها خصوصيات مميزة في المجتمع الأميركي الذي هو خليط واسع من هجرات متتالية إلى حد التشكيك في هوية قومية لهذه البلاد الواسعة. لم تعرف أميركا مسارات التحديث الأوروبي من نهضة وتنوير وثورات اجتماعية، بل إن ما عرف بالثورة الأميركية كان في حقيقته حركة استيطان وتحرر وضعت شروط الحكم السياسي على أساس هوية اجتماعية تشكلت قبل الدولة ضمن منظور تشاركي توافقي حسب ملاحظة الفيلسوفة الشهيرة حنة ارندت.
إن هذه الخصوصية التاريخية (المجتمع السياسي المتزامن مع نشأة الدولة)، هي التي تمنح الحالة السياسية الأميركية صلابتها، باعتبار أن النزعة القومية، وإنْ قامت على اعتبارات إثنية أو دينية، فإنها تظل مقيدة بالطابع المدني المفتوح للمجتمع. الجدل الحقيقي هنا يبقى متمحوراً حول مطلب العدالة والمساواة وإن اصطدمت المقاربات القائمة حولهما.