قد يبدو هذا العنوان مستفزًا بل ومردودًا، لأنّ الفقهاء وقفوا في وجه المنطق والفكر العقلاني بصفة عامة، حتى شاع قول: “من تمنطق تزندق”. تبدو هذه الحجة صحيحة، إذا سلّمنا بالإطلاقات الشائعة حول علاقة بين الفقه والفلسفة والمنطق. والظاهر أننا بحاجة إلى الارتياب في كثير من المسلّمات، التي كنا نركن إليها في الحكم على تاريخنا الثقافي، وخاصة ما يتعلق بالمنطق، بعد اكتشاف الكثير من المخطوطات وتحقيق العديد من الأعمال المنطقية الأساسية.
رغم أنّ المنطق من أوائل المعارف ترجمةً إلى الثقافة العربية الإسلامية، ومع أنه من أكثر العلوم تداولًا داخل هذه الثقافة، فإنّ العناية به في الدراسات الحديثة والمعاصرة ظلّت محدودة، مقارنةً مع المكانة الكبيرة التي احتلّها المنطق في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية.
صحيح أنّ النظر في المنطق، كمبحث مستقل، حديث نسبيًا، وقد مرّ البحث في تاريخ المنطق عامة بمراحل، اختلفت باختلاف زاوية النظر والاهتمام، وحول ما ينبغي التركيز عليه. أما الدراسات التي تناولت تاريخ المنطق عند العرب فبدأت بعد ذلك بكثير.
لعلّ أقدم عمل حاول بناء صورة أوّلية عن المنطق العربي في علاقته بالمنطق اليوناني هو عمل إبراهيم مدكور L'”Organon” d’Aristote dans le monde arabe، وعلى أهمية هذا العمل فقد وقع في كثير من الأحكام المتسرّعة، منها أنّ المنطق العربي لم يتطوّر بعد ابن سينا، والحقيقة أنّ عصر ازدهار المنطق العربي كان بعد ذلك بقرن تقريبًا.
ومن أشمل الأعمال التي صدرت بعد عمل مدكور: تطوّر المنطق عند العرب لنيقولا ريشر، ومنطق العرب من وجهة نظر المنطق الحديث، لعادل فاخوري، ودور المنطق العربي في تطوّر المنطق المعاصر لمحمد مرسلي. حيث ركّز العمل الأول على الرجال والمدارس، واهتمّ الثاني بالنظريات الكبرى وأنساقها، وناقش الأخير المفاهيم والتركيبات. ثم عمل خالد الرويهب تطوّر المنطق العربي، وهو عمل يشبه عمل نيقولا ريشر، إلا أنه جاء بالكثير مما فات عليه وصحّح الكثير من الأغلاط التي وقع فيها ريشر وغطّى فترة زمنية لم يتطرّق إليها. هذا بالإضافة إلى بحوث ودراسات أخرى لا تقلّ أهمية مثل: أعمال جمال الدين العمراني وحمو النقاري وتوني ستريت، وديمتري غوتاس وغيرهم.
يعتقد نيقولا ريشر أنّ المنطق العربي هيمنت عليه مدرستان: مدرسة “غربية” متجمعة حول إرث الفارابي، ومدرسة “شرقية” أخذت جانب ابن سينا. ويورد ريشر قوائم ببعض أهمّ الأسماء الممثّلة للمدرستين، فيذكر من أتباع المدرسة “الغربية”: الفارابي، ابن ملكا، ابن العسال، عبد اللطيف، فخر الدين الرازي، الكاشي، الخونجي، ابن النفيس، الأرموي، ابن واصل الحموي، ابن كمونة. ويذكر من أتباع المدرسة “الشرقية”: ابن سينا، كمال الدين بن يونس، الأبهري، نصير الدين الطوسي، النخجواني، القزويني الكاتبي، ابن اللبودي، الحلي، قطب الدين الشيرازي، شمس الدين السمرقندي.
وهذا التقسيم الذي ذكر ريشر، إذا سلّمنا بصحّته، فليس بتلك الصرامة، حيث نجد من بين أتباع هذه المدرسة أو تلك من يأخذ ببعض أفكار المدرسة الأخرى، كما أنّ بعض المناطقة قد يبدأ التعلّم شرقيًا ثم يتحوّل غربيًا والعكس صحيح. لذلك فإننا نعتمد تقسيم ابن خلدون وهو: طريقة المتقدمين ويقصد بها المشائية العربية بشقّيها، وطريقة المتأخرين وهي تلك التي أسّسها فخر الدين الرازي وتلامذته من بعده.
إذن نحن أمام اتجاهين: اتجاه منطقي نظر له الفلاسفة، واتجاه منطقي أسّس له فقيه متكلم أشعري، وهذا ما يسمح لنا بالمقارنة بين مؤلفات منطقية أنتجها فلاسفة وأخرى أنتجها فقهاء، لتلمس أوجه الطرافة والإبداع لدى الفريقين.